Thursday 28 March 2013

المسلخ السوري




المسلخ السوري

كارلوس دي اورابا – موقع: ريبليون


من مآذن مسجد الرمثا السامقة يُسمع نداء المؤذن معلناً عن دفن جديد. كما لو أنه جزء من سيناريو مقرر مسبقاً يتوجه موكب الجنازة إلى المقبرة حيث يعمل حفارو القبور على حفر القبور بلا هوادة. في الأسبوع الأخير اشتدت الصدامات المسلحة عند الحدود الأردنية السورية وتزايد جرَّاء ذلك عدد الضحايا على نحو غير متناسب. الحشد يطلق صيحات الله أكبر! الله أكبر! تكريماً للشهيد الجديد المسجى هامداً على المِحفّة. اليوم، أخيراً، سيدخل الجنة حيث تنتظره الحوريات الجميلات وألذ الأطعمة ثواباً له. من المؤكد أن أكثر من واحد يغبطونه على حظه ذلك أنه لم يبق للأحياء سوى الاستمرار في عيش المحنة المؤلمة.
تنقصنا الكلمات لوصف مشهدٍ كئيب خلفيتِهُ الموسيقيةُ يؤلفها نحيب المكلومين وصرخات الغضب. سواء أكان ذلك في النهار أو في المساء أو في الليل، تتكرر مشاهد الألم ذاتها. وفي غضون ذلك يغسل العالم يديه غير مبالٍ، من دون أن تحرك مشاعره على الإطلاق هذه المذبحة الهائلة.
فيم تنفع حقوق الإنسان وكل تلك الخطابات الجميلة عن السلام والحب التي ما فتىء الغرب ينادي بها؟ لو كانوا كلاباً أو قططاً على الأقل لكان من المؤكد أن ترفع جمعيات الرفق بالحيوانات في البلاد المتحضرة عقيرتها بالتنديد. ستكون فضيحة لو أن هذا النوع من العنف مورس على الحيوانات الأليفة الغالية في مدن مثل لندن، باريس أو نيويورك.
الشعب السوري يشعر بأنه متروك لمصيره ذلك أن السلوك السلبي للأمم المتحدة أو الجامعة العربية يحكم عليه بالموت على نحو لا يغتفر. يعلمون أنهم وقود للحرب وأن تدخلاً عسكرياً فقط سيكون بإمكانه وقف الإبادة الجماعية التي لا ترحم. لكن المصالح الجيو استراتيجية للقوى الدولية تحول دون الوصول إلى اتفاق يضع نهاية لهذا الكابوس. لقد فرغوا للتو من دفن طفل لمَّا يبلغ الثامنة من عمره كانت دبابة قد أزهقت حياته في درعا. الحفارون يهيلون التراب على القبر بينما يكتب الوالد الحزين اسم ابنه على شاهدة القبر الاسمنتية. من يهتم لفقدانهم ولدهم؟ هل سيتحمل أحد ما مسؤولية هذه الجريمة الوحشية؟ من يهتم! ربما لو كان أوروبياً أو أمريكياً فستكون الأمور جد مختلفة، لكن الأمر يتعلق فقط بطفل سوري، بائس فقير، كائن مجهول مثل كثيرين آخرين لقوا حتفهم في هذه الحرب الظالمة ومصيرهم هو التعفن في النسيان.
الحكومة السورية وحلفاؤها (الصين، روسيا وإيران) يعارضون أي تدخل إنساني ذلك بأنهم يعتبرونه "تدخلاً غير مقبول في الشؤون الداخلية لبلد متشكل ديموقراطياً". يجادلون بأن "بشار الأسـد يواجه إرهابيين خطرين يزرعون الاضطراب والفوضى". "هذه مؤامرة من الإمبريالية الأمريكية، من الناتو، ومن الشيوخ العرب، هدفهم الوحيد هو الإطاحة به".
 "لماذا النضال من أجل الحرية إذا كان الأصوليون سيتولون زمام الأمور فيما بعد على غرار الحاصل في مصر، تونس أو ليبيا" يقول خوسيه ماريا أثنار. "الديموقراطية هي نظام خاص بالأمم المتحضرة لا يتوافق مع تلك البلدان البربرية التي لم تخرج بعد من القرون الوسطى"، يقول ماريو بارغاس يوسا.
 الحفارون المنهكون من الصخب يتوقفون برهة للتدخين. لكن أحداً يقترب فجأة لإخبارهم بأن عليهم أن يحثوا الخطى لأن هناك حاجة عاجلة على ما يبدو لفتح المزيد من القبور بانتظار موجة غير متوقعة من الجثامين. هكذا يعودون إلى العمل فعليهم الاعتماد في أن يرقد الشهداء بسلام في مثواهم الأخير.
يحاول نظام بشار الأسـد بكل الوسائل المتاحة له أن يسحق الثورة، ليس مهماً هدم القرى والمدن أو استخدام القنابل العنقودية أو الفوسفورية وحتى غاز الخردل المخيف أو السارين. إنه يخوض لعبة البقاء لسلالة حاكمة انتفعت من السلطة منذ الثاني وعشرين من شباط| فبراير 1971 و ليس هناك من سبب على الإطلاق يدفعهم للتخلي عن هذا الامتياز الكبير.
ملايين الأشخاص، في معظمهم من المذهب السني، اضطروا للهرب إلى البلدان المجاورة (لبنان، الأردن، العراق، تركيا) في محاولة يائسة لإنقاذ أرواحهم. أكثر من نصف المتضررين هم من الشباب والأطفال، كائنات بريئة لا يفهمون لماذا "الرئيس" المحبوب بشار، "الأب المفترض للأمة" يقدمهم قرباناً على مذبح التضحية.
الحرب الأهلية السورية، التي بدأت قبل عامين بالضبط، تحصي الآن أكثر من سبعين ألف قتيل. والأسوأ ربما هو أنه لا يوجد ما يوحي بتوقف العد المروع للمقتولين، المختفين، المعذبين، المصابين أو المسجونين. بعض المحللين يجادلون بأن هذا مخاض مؤلم عانته أيضاً شعوب أخرى عبر التاريخ ولا مناص منه. الأكثر تأكيداً هو أن المنظمات الدولية غير الحكومية وبقية الهيئات الأخرى للمساعدة الإنسانية ستكون حريصة جداً من أجل إدارة الميزانيات المليونية الموجهة لإعادة إعمار البلاد. لا شك بأن التضامن كان دائماً واحداً من القيم الأساسية للحضارة الغربية.
في نهاية هذا الأسبوع سافرنا مرة أخرى إلى مدينة الرمثا الأردنية، الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من درعا، في سوريا. عناوين الصحف تؤكد أن معارك ضارية تدور للسيطرة على المعابر الحدودية في الجابر والرمثا بين الجيش السوري الحر وقوات بشار الأسـد. القصف الذي يُسمع من بعيد يوتر أعصابنا وفي تلك اللحظة ندرك شيئاً من أفظع ما هو موجود في الشرط الإنساني.
الجيش الموالي للديكتاتور، بالرغم من الانشقاقات التي لا حصر لها، ما زال يمتلك مئات الطائرات الحربية، الدبابات أو المدفعية الثقيلة. بغض النظر عن امتلاك ترسانة الأسلحة الكيميائية الأكبر في الشرق الأوسط هل من المُبرَّر أن يحمل الشعب السلاح دفاعاً عن نفسه أو أن عليه أن يذهب إلى المسلخ كالحملان الوديعة؟ إن التلويح بالراية البيضاء هو دلّ للقناصة على الهدف.
بات معروفاً وجود مقاتلين إيرانيين ومن حزب الله أو مرتزقة روس في صفوف قوات النظام الحاكم. على الطرف الآخر، آلاف الجهاديين القادمين من البلدان العربية السنية  دخلوا بطريقة سرية عبر الحدود مع لبنان، العراق، تركيا، والأردن. مجموعات كجبهة النصرة، القريبة من القاعدة، لها وجود فعال في ساحة المعركة. مستشارون عسكريون أمريكيون، بريطانيون، فرنسيون يدربون الثوار الذين، إضافةً إلى ذلك، يتلقون معدات  وأسلحة من العربية السعودية وقطر. الحرب الأهلية أصبحت دولية ومن الممكن أن تؤثر بشكل أكبر بعدُ على عدم الاستقرار في المنطقة التي هي بحد ذاتها  مهتزة ومتفجرة.
الصور المرعبة التي تُنقل يومياً عبر التلفزيون لم تعد تربك الرأي العام. لقد فقدنا القدرة على الدهشة أمام هذه السادية والفظائع. ومما زاد الطين بلة أن وسائل الإنتاج في الريف والمدينة أصبحت مشلولة والنشاط الاقتصادي والتجاري يتجه نحو الخراب. الجوع يجتاح محافظات كثيرة والمدنيون، الذين دفعوا الثمن الأكبر من الأرواح البشرية، ضعفت معنوياتهم تماماً.
الصدمات الناجمة من هذه الأزمة التي يقتل فيها الأخ أخاه تزيد من حدة مشاعر الكره والانتقام. والأجيال القادمة سيكون عليها أن تتخلص من العنف الطائفي إذا أرادت فتح طرق جديدة للمصالحة والتفاهم.
في مقبرة الرمثا دفن الشهداء متواصل ولم يبق مكان تقريباً لاستيعاب المزيد من القبور.   يصعب علينا أن نفهم بل نجد أن من الغباء أن يقتتل الأخوة في حين تزداد الصهيونية، العدو الحقيقي، قوة ومنعة يوماً بعد يوم.





http://www.rebelion.org/noticia.php?id=165583&titular=el-matadero-sirio-

Saturday 23 March 2013

ذكرى تشافيز في سـوريا، كيف ستكون




ذكرى تشافيز في سـوريا، كيف ستكون

ليلى نشواتي- صحيفة الدياريو الإسبانية


في صيف 2006، سافر هوغو تشافيز إلى دمشق، في زيارة تاريخية استقبله فيها عشرات الآلاف من السوريين ملوحين بالأعلام السورية والفنزويلية عند مروره. اجتمع رئيس فنزويلا مع بشار الأسد، مشيراً إليه بـ "الشقيق الأصغر"، رفيق النضال "ضد العدوان الإمبريالي الأمريكي". مع غزو العراق طرياً في الذاكرة ورفض الدعم الأمريكي والغربي للاحتلال الإسرائيلي، كان تشافيز يُعتبر حينذاك صديقاً للشعوب العربية. بعد سبعة أعوام، سيُذكَر تشافيز في سـوريا باعتباره حليفاً غير مشروط لديكتاتوية بشار الأسـد الذي أدار ظهره للمطالبات الشعبية للمواطنين.
في زيارتي الأخيرة إلى سـوريا، في 2010، كان العثور على صور الرئيس الفنزويلي ما زال ممكناً في المحال التجارية، المطاعم وصالونات الحلاقة. يجمع سوريا وفنزويلا تقليد طويل من الروابط التي تعود إلى أكثر من قرن والتي تعززت مع وصول تشافيز إلى السلطة. الهجرة من سوريا، لبنان وفلسطين إلى أمريكا اللاتينية بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، حيث شقت هذه الجاليات طرقاً تجارية  بديلة عن الموجودة فعلاَ واندمجت في كل نطاقات البنية الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية للمجتمعات الأمريكية اللاتينية.
البعض منهم عادوا خلال السنوات الأخيرة إلى سوريا، ليستقروا بشكل رئيسي في حلب، طرطوس وجرمانا (في ضواحي دمشق) بالإضافة إلى السويداء. تبرز هذه المدينة الأخيرة، ذات الغالبية الدرزية، بسبب الخليط الذي يمكن تلمسه عند التطواف في شوارعها بين اللهجة السورية والفنزويلية، ووجود كلا اللغتين في اللافتات والإعلانات والمطاعم والكافتيريات حيث يندمج كلا المطبخين وحيث يمكن الاستماع إلى موسيقا السالسا الكاريبية وموسيقى أم كلثوم على حد سواء.
هذه الرابطة الممتدة لأكثر من قرن تعززت في أواخر التسعينيات مع سلسلة من الاتفاقات الثنائية عندما وصل هوغو تشافيز إلى السلطة. في ذلك الحين كان يحكم سوريا حافظ الأسـد، والد الديكتاتور الحالي، الذي وجد في تشافيز انعكاساً أمريكياً لاتينياً لخطابه عن معارضة الولايات المتحدة، وإدانة الاحتلال الاسرائيلي، وفكرته عن بديل للخطط الجيواستراتيجية لامبراطورية الولايات المتحدة وإسرائيل والحلفاء. هذا السبيل الذي من خلاله كان كلا الزعيمين يموضعان نفسيهما كآفتين للامبراطورية، واحدة في أمريكا اللاتينية والأخرى في الشرق الأوسط، كان العامل الرئيسي للوحدة والمشاركة بين الحكومتين.
شرحت ذلك أفضل من أي شخص آخر السفيرة الفنزويلية السابقة في سوريا، ضياء نادر العنداري:
"سـوريا بالنسبة إلى العالم العربي هي ما تمثله فنزويلا بالنسبة إلى أمريكا اللاتينية. علاقتنا مع سـوريا هي ذات طابع استراتيجي. فيما وراء التعاون والصداقة، يتقاسم بلدانا قيماً مشتركة ويواجهان الأعداء ذاتهم وخاصة فيما يتعلق بالإدارة الحالية في الولايات المتحدة وسياساتها التي يرفض كلانا الخضوع لها".
بالرغم من هذا الهدف المشترك، فإن الاختلافات في صنيع الحكومتين، كل منهما في بلدها، لا يمكن أن تكون أكبر. فوصول حزب البعث إلى السلطة في الستينيات، تحت مظلة الاشتراكية والوحدة العربية، جاء مصحوباً بخطاب مماثل لذلك الذي يميز سياسات تشافيز.
لكن، منذ عام 2000، وبالتزامن مع موت حافظ الأسـد ووصول ابنه إلى السلطة، بدأت الحكومة السورية عملية إصلاح من أجل تحرير الاقتصاد قوَّضت في أعوام قليلة النظام الصحي والتعليمي العام، مع خصخصة الجامعات والمدارس وفرض أسعار باهظة تركت خارج النظام القسمَ الأكبر من السكان. هذه العملية "الإصلاحية"، التي كانت تحظى بدعم الاتحاد الأوروبي، زادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل دراماتيكي. إنه في هذه الفجوة، مصحوبةً بالسيطرة على الاتصالات والقمع الوحشي لأي شكل من أشكال التعبير المستقل خلال عقود، حيث توجد بذرة الحراك الشعبي في عام 2011 و الشرخ بين أولئك الذين استفادوا من الوضع القائم وأولئك الذين كانوا يطالبون بالتغيير.
تحت مظلة الخطاب عن جبهة مشتركة ضد الامبريالية، واصلت فنزويلا دعمها للقذافي كما للأسـد عندما اندلع الحراك الشعبي في المنطقة في 2011، نازعةً الشرعية عن الانتفاضات في سـوريا وليبيا وواصفة لهما بصنيعتين للمصالح الغربية التي نظَّمت محاولات الإطاحة بحكام المنطقة. إنه خطاب يتزاوج بشكل كامل مع نظرية المؤامرة التي طالما تشبث بها الرئيس الليبي كما السوري خلال أعوام، منكرين وجود تساؤلات داخلية عن سياستيهما.
بعد عامين على بداية الثورة في سوريا، تجاوز عدد القتلى سبعين ألفا. النازحون واللاجئون يُقدرون بمئات الآلاف، بينما تتواصل عمليات القصف على مدن بكاملها، بكنوزها التراثية الإنسانية. أسواق، متاحف، مساجد، كنس، كنائس، وقلاع في أقدم المدن المأهولة في العالم تشكل جزأ من الركام الذي حول إليه البلدَ هذا النظامُ السوري العاجز عن إنتاج رد غير عنيف على مطالبات السكان. في هذا المشهد، يبدو شاذاً وغير قابل للفهم الدعمُ الذي قدمه  تشافيز للأسد حتى النهاية، مديراً ظهره لمطالبات التغيير من قبل الشعب.
بين السوريين، سَيُذكَر هوغو تشافيز بأنه القائد الذي كان يعيد توزيع الثروة بين الفنزويليين في حين كان يدعم النيو ليبرالية في سـوريا، بأنه الرئيس المنتخب من الغالبية في بلده فيما كان ينكر على السوريين حق اختيار ممثليهم الخاصين، بأنه الطليعة في جبهة جيواستراتيجية منشغلة بالتهديدات الخارجية الذي لم يأخذ في الاعتبار القمع الداخلي الذي عانته شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال عقود.






http://www.eldiario.es/zonacritica/Chavez-Asad-Venezuela-Siria_6_108199193.html

Tuesday 19 March 2013

سـوريا والعراق: عناق ذِكريين سنويتين




سـوريا والعراق: عناق ذِكريين سنويتين

سانتياغو ألبا ريكو- موقع: كوارتو بودير


في هذا الشهر آذار| مارس يكتمل عامان على بداية الثورة السورية مع قليل جداً مما يدعو للاحتفال. الوحشية الإجرامية للنظام، التي تجمع، في أفضل التقاليد الإمبريالية، بين القصف الجوي وفرق الموت؛ الدعم المشين من روسيا وإيران؛ استراتيجية "تنظيم الألم" التي لا تقل شيناً من قِبَل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لمصلحة إسرائيل؛ عجز المعارضة عن تمثيل شيء أكبر من مصالح حزبية أو شخصية؛ "تطييف" المواجهة العسكرية المغذاة من قبل العربية السعودية وقطر؛ النفوذ المتنامي للجهادية على الأرض؛ وأخيراً حقيقة أن الجيش السوري الحر، كما يقول صديقي طارق الغوراني، هو "جيش ضحايا"، كل هذه العوامل حولت المطالبة السلمية الكبيرة العادلة جداً بالديموقراطية إلى كارثة إقليمية: سبعون ألف قتيل، أكثر من مليونين من النازحين أو اللاجئين، أحياء منهارة بالكامل، جيل كامل من الأطفال تعتبر اليونيسيف أنه أصبح "ضائعاً". استعارة الكاتب ياسين الحاج صالح عن "المجتمع- المفخخ" لا يمكن أن تكون أكثر صواباً: مجتمع تم تشكيله من قِبل ديكتاتورية طغمة الأسـد بحيث لا يستطيع التطلع إلى الحد الأدنى من العدالة -لا تقفز، لاتتحرك، لا تضحك- من غير أن يؤدي ذلك إلى تمزيق البلد والعالم برمته. أبعد من المسؤوليات الملازمة والعرضية، ومن الحاجة العاجلة إلى منع شرور أكبر، فإن أية محاولة لتخفيف أو إخفاء مسؤولية النظام تعادل اعتبار مَن يضع قنبلة في صدر سجينه محقاَ، و"غير محقّ"، أو، على الأقل، "عابثاً" و"غير مسؤول"، السجينَ الذي يحاول تعطيلها وتحرير نفسه منها.

لكن في هذا الشهر آذار| مارس نتذكر أيضاً ما هو عكس الثورة: الغزو. قبل عشر سنوات من الآن، وبتواطؤ مباشر من انكلترا وإسبانيا، احتلت الولايات المتحدة العراق بالاعتداء عليه، من الأرض ومن الجو، بغية "إعادة البلد إلى العصر الحجري". صدام حسين كان ديكتاتوراً أيضاَ وكان "صديقنا"، لكن في كل الأحوال لم تتم الإطاحة به بثورة شعبية وإنما باحتلال عسكري أجنبي تسبب، بشكل مباشر أو غير مباشر، بسقوط مليون ضحية، حسب تقدير مجلة  The Lancetالشهيرة. قبل ذلك- يجب ألاننسى- كان الحصار الاقتصادي شديد القسوة المفروض في عام 1992، والمخفف بالكاد ببرنامج "النفط مقابل الغذاء"-، كان قد قتل خمسمائة ألف طفل في عقد من السنين، ثمن اعتبرته مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية في إدارة كلينتون، معقولاً في سبيل الغاية الأسمى بنقل "الديموقراطية" إلى البلد والحصول على موارده.

اليوم، بعد عشر سنوات، يوجد أربعة ملايين ونصف المليون من اليتامى في العراق وثمانمائة ألف أرملة؛ ويعيش ستمائة ألف طفل في الشوارع. الزيادة في ممارسة البغاء، وفي استهلاك المخدرات، وفي سوء التغذية، تجتمع، بشكل واضح، مع صعوبة الحصول على الخدمات الأكثر ضرورة: الكهرباء، المياه، العناية الصحية. وكل ذلك يندرج، أيضاً، في سياقٍ يتحد فيه القمع السياسي الطائفي مع الفساد بشكل لا فكاك منه في إدارة حكومة يصفها وزير سابق بأنها "حكم لصوصية مؤسسي". مع خمسة عشر ألف سجين سياسي على الأقل متهمين بـ "الإرهاب"، ومع شرطة تُدرَّب من قِبل الولايات المتحدة وتمارس التعذيب بشكل منتظم على السجناء، مع واحد من المؤشرات الأعلى في تطبيق عقوبة الإعدام، لا يمكن أن نفاجأ بأن قدوم الجبوري، الرجل الذي أصبح مشهوراً في عام 2003 جراء مهاجمته لتمثال صدام حسين بعد دخول الجيش المحتل إلى بغداد، يتأمل اليوم مأثرته مع قليل جداً من نشوة النصر: "كنت أكره صدام حسين وخلال أعوام كنت أحلم بسقوط ذلك التمثال، لكن ما حدث بعد ذلك ولد في نفسي إحباطاً مريراً"، "في السابق"، يضيف هذا السجين السابق لصدام حسين، "كان لدينا ديكتاتور واحد. اليوم لدينا مائة".

كخاتمة لهذه الحماقة الإجرامية وكتكذيب لأولئك الذين يعتقدون بالذكاء كلي القدرة للإمبريالية الأمريكية، ينبغي أن نتذكر التناقض -الهزلي إذا كان للدمار والألم أن يسمحا لنا بالضحك بعد- في أن غزو العراق، الذي قتل وجرح وهجَّر وأفقر وهمَّش وأمرض ملايين الأشخاص، قد أفاد فقط في تسليم البلد إلى العدو الأكبر للولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة: إيران. إن الأمر كما لو أن الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988)، -بعد ثلاثين عاماً- قد كسبتها طهران بفضل الجيش "المرتزق" الأمريكي. اليوم، بالفعل، تعتمد حكومة المالكي على الديكتاتورية الإيرانية أكثر بكثير مما تعتمد على "الديموقراطية" الأمريكية.

عشر سنوات بعد غزو العراق، سنتان بعد انطلاق الثورة في سوريا، نستطيع أن نقول إن العراق وسوريا، اللذين كان فرعا حزب البعث فيهما عدودين لدودين، يتشابهان أكثر من أي وقت مضى. نستطيع أن نقول إن الاحتلال الأمريكي أنتج في العراق الآثار نفسها التي تنتجتها ديكتاتورية بشار الأسـد في في سوريا: قتلى، لاجئين، دماراً مادياً، طائفية.

لكنهما يتشابهان أيضاً في ما هو جيد. في آذار| مارس 2011 ثار قسم كبير من الشعب السوري بشكل سلمي على ديكتاتورية الديكتاتور الأوحد؛ اليوم يثور قسم كبير من الشعب العراقي بشكل سلمي على ديكتاتورية المائة ديكتاتور. مُدَمَّراً ومعزولاً، منقطعاً على ما يبدو عن المصير المشترك للعالم العربي، كان العراق متعباً ومتألماً إلى درجة كبيرة لكي يلتحق بما يسمى "الربيع العربي". لكن هذا ليس صحيحاً. فوسائل إعلامنا الملتفتة إلى مصر وتونس، ولأسباب أخرى، إلى ليبيا وسوريا، فضَّلت نسيان العراق لأنه أيضاً من"صنيعنا". والحقيقة هي أن العراقيين حاولوا ذلك في حزيران| يونيو 2001 وعادوا اليوم إلى المحاولة، منذ ثلاثة شهور، وللأسباب نفسها التي دفعت التونسيين، المصريين أو السوريين.

منذ الخامس والعشرين من كانون الأول| ديسمبر الماضي، تعبِّىء المظاهرات الحاشدة  المزيد من المواطنين في ما يُسمَّى بـ "المنطقة السنية": سامراء، بعقوبة، تكريت، كركوك، الموصل، أحياء في بغداد، وبشكل خاص في الأنبار والفلوجة، حيث أسقط القمع الوحشي عشرة من القتلى. الفاعلون الرئيسيون فيها يعتبرون حركة الاحتجاج هذه امتداداً للمقاومة ضد الاحتلال ولا يترددون في وصفها بـ "الثورة السلمية". ماذا يطلبون؟ نهاية الهيمنة "الطائفية" والدستور الحالي، المكتوب بإرادة الولايات المتحدة وإيران؛ نهاية الاغتيالات والاعتقالات الاعتباطية، نهاية التعذيب والاضطهاد السياسي؛ نهاية السياسات الاقتصادية التمييزية والفساد. باختصار وكما هو الحال في سوريا: الكرامة، العمل، الحرية، الشفافية، العدالة الاجتماعية، أمة واحدة بدون إقصاء سياسي واقتصادي وديني.

قد لا يكون مصادفة، بالتزامن مع زيادة الاحتجاجات وكما في سوريا بشار الأسـد، أن تعاود القاعدة الظهور الآن في عراق حليفه المالكي وأن ينشط العنف الطائفي المدمر. يمكن للحرب في سوريا من غير شك أن تورط العراق وأن تعطِّل هذه الحركةَ المدنية القوية، لكن أن توجد فتلك معجزة: معجزة كرامة شعبٍ ما زال قادراً، بعد ثلاثة عقود من الحروب والديكتاتورية والغزو والعقوبات الجماعية، على المطالبة باستعادة وطنه وإنسانيته.













http://www.cuartopoder.es/tribuna/siria-e-iraq-el-abrazo-de-dos-aniversarios/4158

Tuesday 12 March 2013

"لا مكان لنا في هذا العالم"





"لا مكان لنا في هذا العالم"

أوسكار غوتييرث – صحيفة الباييس الإسبانية


مخيم الزعتري (الأردن)- هِبة ليست رقماً. عيناها، الخضراوان والكبيرتان، مدهشتان كما لو كانتا من رواية. لكن هبة حقيقة، هي صغيرة، ونحيفة، بشرتها ذات لون زيتوني، وابتسامتها غير مسيطر عليها جرّاء الخجل. هبة في الثانية عشرة من عمرها وتريد أن تصبح معلمةً للرياضيات. هبة من درعا، مهد الثورة الشعبية ضد نظام بشار الأسـد التي بدأت في الشوارع قبل عامين وصارت بعد عدة شهور حرباً أهلية وطائفية ضارية. دفع السلاح حتى الآن بمليون سوري إلى عبور الحدود، هبة واحدة من هذا المليون. لكن هبة ليست رقماً، إنها حقيقة، هي، ووالدتها، ووالدها، وخمسة أقرباء آخرين، يعيشون في مخيم الزعتري الأردني، على بعد خمسة عشر كيلومتراً من الحدود مع سوريا.

إنها الساعة التي تدخل فيها هبة إلى واحد من الصفوف المفتوحة في المدرسة الوحيدة القائمة في الزعتري، حيث يعيش مائة ألف لاجىء. قد لا تفهم ما يعلنه هذا السيد ذو البطاقة على صدره. "لقد وصل العدد إلى مليون لاجىء"، يخبرنا عند مدخل المخيم أندرو هاربر، المسؤول في الأردن عن وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ANCUR. مليون من السوريين الذين فروا باتجاه الأردن، لبنان، تركيا، العراق وشمال أفريقيا. الجار الجنوبي، الأردن، له النصيب الأكبر بثلاثمائة وعشرين ألف لاجىء، حسب الوكالة الدولية ANCUR. وبعده يأتي لبنان (317229)، تركيا (184513) والعراق (100222). أرقام لا تسمح للوهلة الأولى برؤية العمق: موجة اللاجئين فاقت قدرات الاستقبال عند الدول المجاورة. والأموال تنفد. المزيد من الأرقام: الزعتري وحده يكلف الأمم المتحدة ووكالاتها مليون دولار يومياً.

إنها التاسعة والنصف صباحاً. تصل حافلة صغيرة تحمل لاجئين جدداً. ليسوا كثيرين، نساء وأطفال بشكل رئيسي –يشكلون خمسة وسبعين بالمائة من القاطنين في الزعتري-؛ الرجال صامدون في سوريا. تنتظرهم خيمتان بلون الخاكي، حيث يتلقون المساعدة الأولى. ينزلون متاعهم: أكياس تحوي مقتنياتهم، علب طعام،.... يرتاحون أخيرأ. الأرقام لا ترتاح: خلال الأيام العشرة الأخيرة، عبر حوالي ثلاثة آلاف لاجىء سوري الحدود السورية- الأردنية كل ليلة. في تشرين الثاني| نوفمبر الماضي، كان هذا الرقم يراوح حول سبعمائة. "أزمة اللاجئين السورين ليست عادية"، يقول هاربر. "والمزيد من الناس سيواصلون العبور؛ في سوريا بقيت أماكن قليلة آمنة". والمخيم؟ هل هو آمن؟ "هناك أخطار دائماً"، يواصل هاربر كلامه. "السكان المدنيون القادمون ضعفاء، لكننا سنواصل مساعدة من يحتاج المساعدة".

فاطمة، سبعة وأربعون عاماً، هربت من أحد الأماكن التي كانت تبدو آمنة فعلاً ، دمشق. فعلت ذلك قبل أربعين يوماً، صحبة زوجها وخمسة أبناء. لكنها خلفت وراءها شيئاً يحملها على البكاء: ابنها البكر، ذا الثمانية عشر عاماً، المنضوي حالياً في صفوف الثوار. ماذا تشعرين؟ "أشعر"، تقول فاطمة مكتوفة اليدين، "أنه لا يوجد مكان لنا في هذا العالم". كل ثلاثة أيام، تروي لنا بينما الصغار يدوسون التربة البيضاء في الزعتري، يجهز السبعة حقائبهم للانتقال إلى المدينة. ينتظرون ما يسمى بـ "الإنقاذ"، نوع من الكفالة الموقعة أمام الحكومة من قبل عائلة أردنية تتحمل بموجبها المسؤولية عن مجموعة من اللاجئين. عليهم الانتظار.

وكذلك المنظمات التي تدير مخيم الزعتري قبل الافتتاح الوشيك لمخيم جديد، مريجب الفهود، في عهدة الإمارات العربية المتحدة. ثلثا الهاربين إلى الأردن يفضلون المدينة. إنهم لاجئون حضريون. سلوى، تسعة وثلاثون عاماً، وصلت إلى المدينة مع ثمانية من أبناءها قبل ستة أشهر. جاؤوا من حلب، عبروا البلاد تحت القصف وأقاموا في المفرق. على مبعدة كيلومترات قليلة من الزعتري. "هنا لا أشعر بأنني غريبة"، تقول سلوى بينما تقوم بإرضاع ابنها الأصغر سناً. أما أحمد، ذو الثمانية أعوام، فيبدو مذهولاً بالفعل، ربما في مواجهة الحياة. "في أحد الأيام سمع انفجاراً قوياً عندما كنا لا نزال نعيش في القرية"، تشرح والدته، "ولم يعد يتكلم". ومازال على هذه الحال. أحمد أيضاً ليس رقماً، لكنه في أزمة هي اليوم أخطر مما كانت بالأمس.












http://internacional.elpais.com/internacional/2013/03/06/actualidad/1362594436_642659.html