Thursday 11 December 2014

أطفال حلبَ الضائعون




أطفال حلبَ الضائعون

أنتونيو بامبلييغا- صحيفة الباييس الإسبانية

حلب- سـوريا: واحدة. اثنتان. ثلاث... تأخذ الأيدي بالارتفاع بخجل. ينظر الأطفال بعضهم إلى بعض حائرين بعض الشيء. "يا آنسة، عندما يُشار إلى الأقرباء المتوفين، فهل المقصود هم من توفوا جراء الحرب؟"، يسأل طفل ذو خدين متوردين جالس في المقاعد الأخيرة من قاعة الصف. توافق المعلمة بهز رأسها. أيادي تسعين بالمائة من الأطفال، الآن نعم، ترتفع في الهواء. أمهات. أخوة. آباء. أجداد. أولاد عمومة. أعمام. الجميع فقدوا، على الأقل، واحداً من القرابة القريبة منذ أن بدأت الحرب الأهلية في سوريا.
تجلس نور في الصف الأول. "إنها تلميذة مجتهدة"، توضح أم مضر، مديرة هذه المدرسة السرية الواقعة في شرق مدينة حلب. تلون الطفلة، البالغة تسعة أعوام فقط، جسم لعبة الاسفنجة بوب Sponge Bob . الصغيرة، المركزة لكي لا تشت، تعض على لسانها. "كنت ذاهبة مع جدي لشراء الخبز وسقط منهاراً إلى جانبي"، تتذكر نور. رصاصة قناص أنهت حياته أمامها. تكشر تكشيرة صغيرة وتستمر بتلوين رسمها.
"أنا لن يمكنني أن أغفر للأسد أبداً. سأقتله بيديّ هاتين لو استطعت. لن يكون هناك سلام له ولا لمن يساندونه"، تؤكد بحدَّة. إنها صبية باسمة ومِن أفضل مَن في الصف. عمرها عشرة أعوام فقط، لكنها ستكون قادرة على إنهاء حياة رئيس سـوريا لو وجدته أمامها. "قتلت قنبلة أمي وشقيقتي الصغيرة (ستة أعوام) بينما كانتا في صالة منزلنا"، تروي الطفلة التي تبدأ عيناها اللوزيتان بالامتلاء بالدموع. تقترب المعلمة من طاولتها لمعانقتها وتقبيلها.
على بعد بضعة مقاعد أمام فاطمة يوجد الصغير فيصل، ثمانية أعوام. الطفل يلون ويلون بغضب رسماً حيث يُرى والدُه، الجندي في الجيش السوري الحر، يقاتل بمواجهة دبابة. "أنا فخور جداً به"، يعلِّق ولا يرتفع نظره عن الورقة البيضاء التي تمتلىء، شيئاُ فشيئاُ، بالألوان. "عندما أصبح كبيراً سأكون جندياً مثله"، يؤكد. "مات والده في المعركة قبل عام ونيف"، تقول أم مضر. منذ ذلك الحين لم يعد الصغير فيصل يتكلم كثيراً ولديه عرَّة عصبية خفيفة في الشفة السفلى. صار نفوراً ويفكر فقط في أن يصبح كبيراً من أجل الانتقام لوالده الميت. "أفتقده كثيراً"، يقول مؤكداً قبل أن يعود إلى الانهماك في رسمه.
"الغالبية العظمى من الأطفال لديهم مشكلات نفسية خطرة. عندما يستمعون إلى صوت طائرة أو مروحية يلوذون بصمت كامل منتظرين أن تمر أو أن ترمي برميلاً من الـ تي ان تي. البعض يبكون رغماً عنهم. آخرون يتبولون على أنفسهم..."، تؤكد أم مضر.
"أثناء الليل أحلم بأن الموتى ينهضون ويلاحقونني"، يقول فيصل. "أنا أحلم بالشيء نفسه!". "وأنا!". "وأنا!". تنضم أصوات رفاق آخرين من الصف إلى صوته. حسب تقرير لليونيسيف، يُلحق الصراع أضراراً جسيمة بحوالي ستة ملايين من الأطفال. الذين يوجدون في وضع أكثر مدعاة للقلق هم المليون من القاصرين المحاصرين مع عائلاتهم في المناطق المحاصرة أو حيث لا تصل المساعدات الإنسانية. تقدر اليونيسيف أن حوالي مليونين من الأطفال السوريين يحتاجون مساعدة نفسية وعلاجاً.
أم مضر، اثنان وثلاثون عاماً، أسست هذه المدرسة الصغيرة السرية قبل ستة شهور. من أجل هذا "احتلت" منزلاً منخفضاً في حي من أحياء شرقي حلب. إلى هنا يحضر مائتان وأربعون طفلاً من كل الأعمار. "عندما بدأ النظام بقصف المدارس قررنا البحث عن مكان آمن لا يلحظه الطيران. نعيش مختفين كالفئران"، تقول المعلمة.
في الثلاثين من نيسان|أبريل المنصرم قذفت إحدى طائرات نظام الأسـد عدة براميل من الـ تي ان تي على مدرسة في حي الأنصاري. مات في ذلك الهجوم ثمانية عشر شخصاً، أغلبهم من الأطفال الذين كانوا في صفهم لحظة الهجوم. "لدينا حديقة قريبة. في إحدى المرات أخذنا الأطفال إلى هناك ليلعبوا بالأراجيح، لكن قنبلة سقطت على بناية قريبة... ومنذ ذلك الوقت لا يخرج الصغار من قاعات صفوفهم"، تتذكر أم مضر.
من المدرسة إلى التسول
عشرات من الأطفال يتجولون في شوارع حي السكري حاملين في أيديهم دلاء صغيرة من البلاستيك أو صواني من النحاس الأصفر. بعضهم يضحكون، آخرون يمشون مطرقي رؤوسهم في صمت مؤرجحين الدلاء نحو الأمام والخلف. "نذهب للبحث عن الطعام"، يؤكد محمد، خمسة أعوام. "آتي إلى هنا كل يوم لنتمكن من الأكل"، يقول الصغير الذي يرافق شقيقته الكبرى، عائشة، تسعة أعوام. "هكذا نأكل نحن، ثمانية أشخاص. إنه لا يكفينا ونعاني من الجوع. في بعض الأيام لا يصل الطعام إلى جميع الجيران ونبقى بلا أكل"، تقول الصبية.
مجموعة من الأطفال ينتظرون بصبر مستندين على سياج بناء. واحداً تلو الآخر يدلف الفتية إلى داخل المنزل حيث تقدم لهم إحدى العجائز الطعام. اليوم توجد معكرونة بالطماطم. خمس جفان كبيرة مليئة بالمعكرونة موضوعة قريباً من المرأة التي تصب الطعام بمغرفة. مصطفى، ستة أعوام، ينظر بعيون مفتوحة على اتساعها. يتصاعد الدخان من المعكرونة والطفل لا يستطيع مقاومة إغراء حمل شيء منها إلى فمه.
أم محمود، ستون عاماً، تتعاون مع منظمة غير حكومية صغيرة تقوم بتوزيع 400 كيلوغرام من الطعام على الأكثر احتياجاً. هي، في كل يوم، تجلس على مقعدها البلاستيكي الهزيل وتنتظر أن يأتي الأطفال بحثاً عن الطعام. "الأكثر قسوة هو سماعهم يطلبون الطعام. أمر يحطم فؤادي"، تقول المرأة بصوت منكسر. "يجب ألا يمر أي طفل بحالة مثل هذه. هذه ليست حياة لهم"، تؤكد فيما تتدفق الدموع من عينيها وتنزلق على خديها.
"ادفع، ادفع!"، يقولها أحد الفتية لآخر محاولاً إصعاد العربة الصغيرة، المحملة بأربع صفائح (بيدونات) زرقاء، مرتقى منحدراً في حي بستان القصر. فتى صغير ثالث ينضم إلى الأخوين الاثنين وفي النهاية يتمكنون، ثلاثتهم، من أن لا تبقى العجلات عالقة في الحفر التي لا نهاية لها الناتجة عن آثار قذائف الهاون الموجودة على الرصيف. تترجرج المياه عند الفتح وتنسكب على الشارع المغبر.
أصبحت المياه ترفاً. عشرات من السكان يصطفون أمام خرطوم مياه ضيق ليملأ لهم أحد الأطفال الدلاء، القناني، الصفائح، وحتى أدوات المطبخ. "نحن نعيش في الطرف الآخر من المدينة وقد جبنا عدة أحياء من حلب بحثاً عن الماء"، يعلق مصطفى.
"أتينا بحثاً عن المياه لأنه منذ أكثر من شهر لا تخرج نقطة منها في منزلنا. نستخدمها للاغتسال ولكي تطبخ أمي"، يقول حمودي، عشرة أعوام، ومتعته الكبرى هي الذهاب بحثاً عن الماء في الأحياء المجاورة. من دون مدرسة، هو وأصدقاؤه، تحولوا إلى نوع من المستكشفين بحثاً عن (الكأس المقدسة). "إلى ما قبل بضعة أسابيع كنا نستخدم صنبور أحد المساجد في أرض الحمرا، لكن طائرة دمرته وبقينا بلا ماء. لكننا نبحث ونبحث كل يوم"، يقول الصغير بينما يتوارى داخل منزله صارخاً بوالدته لتساعده في الزجاجات التي يحملها بين ذراعيه.
الأطفال الجنود
اللونان الرمادي والأسود يصبغان السماء وجدران الأبنية الكبيرة المحفورة بثقوب الشظايا. صلاح الدين هو قطعة جبن هائلة (مثقوبة) على شكل حي (سكني). الصمت يقطعه صوت الماء المتدفق من المواسير المثقبة بشظايا قذائف المدافع. حيث كانت توجد سابقاً بنايات سكنية يتبقى الآن فقط هياكل ضخمة من الخرسانة. مدفأة تتقيأ نفثات من نار برتقالية. يضعون أيديهم أقرب ما يمكن لتدفئتها. البرد يخترق العظام. واحد من الفتيان المُرد الأربعة المسؤولين عن إحدى زوايا حي صلاح الدين يضع إبريق شاي على المدفأة.
"أتعلم ما هو الشيء الوحيد الذي أفتقده من المدرسة؟ اللعب بكرة القدم مع أصدقائي أثناء فترة الاستراحة. كنت ألعب قلباً للهجوم والحقيقة أنني كنت جيداً تماماً في تسجيل الأهداف ... حلمي كان اللعب مع ميسي واِنييستا"، يقول سمير قبل أن يلوذ بصمت حزين.
ينظر الفتى، ذو السبعة عشر عاماً، إلى يديه التي تمسك بـبندقية AK-47 شبه مفككة. أحلامه صارت الآن بعيدة تماماً... انفجار قوي يقربه من جديد إلى الواقع. يضع يديه أمام مدفأة يغلي عليها إبريق الشاي. مضى زمن طويل منذ أن ترك مدينته للقتال في أطلال هذا الحي الشبح. استبدل لوحات التحكم بألعاب الفيديو بالأسلحة الأوتوماتيكية وأُسرته صارت الآن هذه المجموعة من الفتية.
"لم تعجبني الدراسة قط، لم أبل فيها بلاءً حسناً... وهكذا تركتُ المدرسة وبدأت العمل في المحل مع والدي. أعتقد أنني في ذلك اليوم أحبطتُ والديَّ اللذين كانا ينتظران مني شيئاً أكبر"، يتذكر متأسفاً هذا الفتى الذي كان متفرغاً لبيع الهواتف المتحركة إلى أن وصلت الحرب إلى بلدته.
إلى جانبه يوجد عبد القادر، خمسة عشر عاماً، أصغرهم سناً. "لدي أربعة أخوة أصغر مني. أشتاق إليهم... أنا الكبير وكانوا يلعبون معي دائماً. مضت شهور لم أرهم فيها. دائماً عندما أتحدث مع والدتي أسألها عن أشقائي؛ لكنني لا أريد التحدث معهم. سوف يجعلونني أبكي، هذا مؤكد"، يعلق مصطنعاً القسوة. "حسناً... وأنت من المؤكد أنك تبكي أيضاً"، يقول سمير دافعاً وممازحاً لصديقه. "ممكن جداً، نعم..."، يؤكد هذا الجندي الشاب، المتحدر من مدينة إدلب.
"والدي جندي في الجيش الحر في محافظة إدلب وكان هو من شجعني على الالتحاق بهم"، يقول محمد، ستة عشر عاماً. يقول إنه قتل خمسة من جنود النظام. "ما أفتقده أنا هو القدرة على النوم دافئاً أثناء الليل"، يؤكد. لا يريد التحدث عن أسرته. أفضِّل عدم التفكير فيهم، هذا يساعدني على التركيز على الحرب"، يؤكد.
"الحرب ليست سيئة جداً... يموت الناس وهكذا، لكن في النهاية هي شديدة الشبه بلعبة فيديو"، يقول سمير، الهاوي للعبة Call of Duty. "أنا جيد حقيقةً، وخاصة في وضع (القناص)"، يقول بينما يُظهر بندقية بمنظار في القسم الخلفي من هذا المحل القديم للأغذية الذي هو الآن مقر عسكري. "لكن هنا لا توجد فرصة ثانية ولا حيوات دائمة"، يقول محمود، الأكثر حصافة من بين  الأربعة وذو السلوك الأكثر رشداً.
يفضل محمود عدم الكلام بشكل مفرط عن الحرب وعن الجنود الذين قتلهم في المعركة. "لا أعلم إن كنتُ قَتَلتُ أم لا... لا يهمني أيضاً. أنا أعلم أنني أطلق عليهم النار وهم يطلقون علي. الله هو من يوجه الرصاصات"، يؤكد مطئطئاً رأسه، خجلان. هذا الرقيب انضم إلى الجيش الحر بعد أن تعرض لضرب وحشي من قبل شبيحة نظام الأسـد عندما أوقفوه في نقطة تفتيش. "طلبوا مني هويتي وبما أنني من بلدة تحت سيطرة الجيش السوري الحر فقد ضربوني حتى تركوني بلا وعي ثم ليسرقوا مني كل ما كان في جيوبي"، كما يقول.
حيوات مبتورة
خيط خجول من الدم يتلوى خلال الطين لينتهي مختلطاً بالمياه العكرة للجدول. جندي من الجيش السوري الحر ينظر إلى الجثة. يجثو وبحركة شبه أبوية يغلق له عينيه براحة كفه. ينتظر برهة، يتنفس بعمق بينما يعود للنظر إليه. يحفظ ملامحه الطفولية. تتميز بقعة حمراء   وسوداء في جبهته. المكان الذي أنهت رصاصة حياته فيه.
يسحب مدية مهلهلة من سترته العسكرية. هي نفسها التي يستخدمها لقطع الخبز، والآن تنفع في قطع الحبال التي تقيد يدي هذا الطفل ذي الاثني عشر عاماً إلى ظهره. يضع له يديه على صدره وينظر إلى رفاقه الذين يرفعون جثة الفتى لوضعها على النقالة. يسير المتطوعون بجثة الفتى الهامدة فيما مجموعة أخرى من الرجال تحضر مع الثائر الذي يحتفظ بمديته في سترته العسكرية. إلى جانبهم، حيث كان يرقد الطفل، تنتظر خمس جثث أخرى. كلهم أُعدِمُوا بطلقة في الرأس.
حصدت الحرب السورية أكثر من 250000 ضحية. في آب|أغسطس، قدَّر تقرير للأمم المتحدة عدد الأطفال القتلى خلال الصراع بـ 8803، منهم 2165 تقل أعمارهم عن عشرة أعوام. إنه تعداد لا يتوقف عن التزايد ويبقى قاصراً دائماً، إذ، كما يعترف واضعو الدراسة، ثمة حالات لم يمكن ممكناً توثيقها. المأساة السورية تتواصل بدون أن يجرؤ أحد على وضع حد لهذه الخسارة في الأرواح البريئة.







http://elpais.com/elpais/2014/11/20/planeta_futuro/1416499724_787057.html

Wednesday 12 November 2014

مع آخر 36 طبيباً في حلب




مع آخر 36 طبيباً في حلب

أنتونيو بامبلييغا- جريدة الكونفيدينثيال الالكترونية الإسبانية

"حلب. مدينة أشباح. شبه ميتة من العطش والجوع، أصبحت مسرحاً للمعركة الأخيرة في الحرب الأهلية السورية. بعد عامين من الحرب، انخفض عدد الأطباء إلى شيء رمزي. بقي ستة وثلاثون في حلب كلها. يعملون بدون كهرباء، أحياناً بدون مواد تخدير، وأدوات جراحية مرتجلة. "الكونفيدينثيال" تزور أحد مستشفياتها القليلة التي ما تزال تقاوم لتروي مأثرة هؤلاء الأطباء، الشهود الوحيدين على المذابح بحق المدنيين".
الصرخات تخرس الأصوات الصارَّة لسيارات الإسعاف التي تعبر الشارع بأقصى سرعة. صرخات ألم. صرخات غضب. صرخات موت. يخرج رجل، مغطى بشكل كامل بالدماء، يخرج من داخل المستشفى وينهار أمام النظرات المذهولة للمارَّة. لا أحد يقترب لمساعدته. رأوا مرات كثيرة مشاهد مثل هذه صارت بالنسبة لهم أمراً يومياً. شاب آخر، وجهه ملطخ بالدم، يجثو إلى جانبه. الاثنان يبكيان. بكاؤهما يخمد الصرخات. تعود المدينة إلى صمت لا يمزقه إلا جَلَبَة سيارات الإسعاف.
في مدخل المستشفى توجد محفتان عليهما جريحان. الداخل هو فوضى تامة. دماء في جميع الأنحاء. أشلاء بشرية يمكن بواسطتها أن يعاد بناء شخص كامل. الأطباء والممرضون والمتطوعون لا يكفون. كل واحد منهم يعتني بعشرة من الجرحى؛ في غضون ذلك، تواصل سيارات الإسعاف الوصول مع مزيد من الضحايا.
"في وقت مبكر قذفت مروحية تابعة للنظام برميلاً محملاً بالـ تي ان تي على مئات من الأشخاص كانوا يصطفون من أجل الحصول على الطعام. بعد عشرين دقيقة، قذفت المروحية نفسها برميلاً ثانياً على عمال الطوارئ الذين حضروا لمساعدتهم. يوجد عشرات من الموتى ومئات من الجرحى. وصلنا إلى أقصى حدود التحمل"، يقول الدكتور عمار للكونفيدينثيال.
هذا الضابط القديم في جيش بشار الأسـد انشق قبل عامين للانضمام إلى الأطباء الذين يعملون، متطوعين، في جانب الثوار. "النصر الأكبر سيكون وقف النزف الذي يحدث يومياً، ما يتجاوز انتصار الثورة أو عدمه. هذا أمر ثانوي الآن، سنكسب عندما نوقف الحرب. حتى تلك اللحظة، هذا ما ينتظرنا كل يوم"، يقول مؤكداُ فيما يُظهر جزمته الممتلئة بالدم.
"معظم السوريين (في الخارج) ليست لديهم أية فكرة عما يحدث في بلدهم. كثيرون يعيشون وادعين في أوروبا أو الولايات المتحدة. يجب أن يعودوا ويروا بأعينهم كيف يقضون علينا". الغضب يملأ كلمات هذا الطبيب، الذي قرر الانشقاق عندما شاهد بأم عينيه كيف قام زملاء آخرون له بتعذيب المدنيين الأبرياء لسحب المعلومات منهم. "قررتُ العمل تحت القنابل، لكنه العمل بحرية"، يقول جازماً.
المستشفيات هدف ذو أولوية بالنسبة للأسـد
عندما اندلعت الثورة في مدينة حلب (19 تموز|يوليو 2012)، حضر مئات الأطباء والممرضين والمتطوعين إلى المشافي للمساعدة. بعد عامين، انخفض الرقم إلى شيء رمزي. "يوجد ستة وثلاثون طبيباً في المدينة كلها. كل بضعة أيام يغادر أحد الأطباء حلب للرحيل، مع أسرته، إلى أوروبا. رفاق كثيرون تعبوا من انتظار تحسُّن الوضع وقرروا أن البقاء في سـوريا لا يستحق العناء"، يؤكد أبو يوسف، مدير هذا المستشفى.
هذا الرجل، الستيني ذو المظهر المتعَب، يطلب أن لا ننشر اسم المستشفى للحؤول دون تحوله إلى هدف. "في ما مضى علينا من الحرب مات، في حلب فقط، عشرة أطباء وما يقرب من ثلاثين ممرضاً. خمسة مستشفيات طالتها القذائف واثنان دُمِّرا بشكل كامل. نحن هدف ذو أولوية بالنسبة للنظام. إذا أزحتَ الأطباء من المعادلة فمن سيعتني بالجرحى؟"، يقول أبو يوسف محللاً. "نحن الشهود الوحيدون الذين نوثق المذابح التي تقوم بها (قوات الأسـد)".
تمر الساعات ويواصل المصابون الوصول بدون توقف. الأرقام المتعلقة بالهجوم تصبح مرعبة. 47 قتيلاً، في هذه اللحظة، وأكثر من مائتي جريح. في هذا المستشفى يوجد سبعة أطباء يعملون بدون استراحة ويعتني كل واحد منهم بما لا يقل عن عشرة مرضى. "أقسام الطوارىء في أفضل مستشفيات العالم تستطيع الاعتناء بشكل مُرضٍ بحوالي عشرين مريضاً في الآن نفسه. نحن لدينا ما لا يقل عن مائة منهم الآن. بل إنه لا مكان لدينا لنضعهم فيه..."، يتأسف أبو عاصم، خمسة وعشرون عاماً، الذي لم ينتهِ بعد من دراسة الطب. لكن، في هذا السياق، ليس هذا أمراً مهماً؛ فإذا نجا من الحرب سيكون لديه تجربة أكبر من تجارب كثير من الأطباء الذين لديهم أكثر من عقد من السيرة المهنية.
"العالم نسي سـوريا"
يقترب رجل مسن من مشرحة هذا المستشفى، وهي ليست إلا خيمة تذوب تحت أشعة الشمس الحامية. رائحة التعفن تسبب الغثيان. متطوعو المستشفى أخذوا يضعون الجثث، المكفنة، في هذا المكان شديد الاتساخ بانتظار أن يطالب أقرباؤهم- إذا وجدوا- بجثامينهم. الرجل، الذي يرتدي غطاء رأس مخططاً باللونين الأبيض والأحمر، يضع يديه على وجهه ويغطي عينيه. في هذا اليانصيب المروع كان رقمه فائزاً. ابنه كان من بين الموتى...
"لقد نسي العالم سـوريا"، يعلق أحد الممرضين فيما يراقب المشهد من بُعد. "تحولنا إلى مجرد أرقام"، يؤكد متهكماً، أرقام بلغت أكثر من مائتي ألف ضحية.
هؤلاء القلة من الأطباء والممرضين الذين قرروا البقاء في حلب، مخاطرين بأرواحهم، يعملون في ظروف شديدة القسوة. بدون كهرباء، بدون أموال حتى لدفع ثمن البنزين لمولدات الكهرباء، وفي أحيان كثيرة عليهم أن يعملوا بدون مواد تخدير وبأدوات جراحية مرتجلة. إلى ذلك، على الكادر الصحي أن يواجه مشكلة أخرى، القادة الجدد للمدينة. "السياسيون لا تهمهم حالة الأطباء. أحد الجنود يمكن أن يأتي إلى المستشفى ويضرب طبيباُ لأنه لم يستطع إنقاذ رفيق له. ذلك الجندي لن يتعرض للعقوبة أبداً. إنها سابقة خطرة"، يشتكي الشاب أبو عاصم.
"لم تنفع الثورة في شيء، نحن الآن أسوأ بكثير من السابق. كانت لتسعدني إمكانية العودة إلى الأوقات السابقة على حدوث هذا كله"، يفكر بصوت مرتفع. "لكنني لا أزال أعتقد أن الأسـد قاتل وديكتاتور..."، ينهي كلامه.









http://www.elconfidencial.com/mundo/2014-10-10/con-los-ultimos-36-medicos-de-alepo_234310/

Thursday 30 October 2014

روحي منهَكة




روحي منهَكة

نوريا بيرّو-  صحيفة الباييس الإسبانية


إنها السادسة صباحاً والفجر يطلع في الفايضة 15، إحدى مستوطنات اللاجئين السوريين العديدة في شرق لبنان. تحت ضوء الصباح الباكر ينتصب بناء حيث لم يكن ثمة شيء بالأمس: الهيكل المزعزَع لخيمة جديدة ستؤوي قريباً أسرة جديدة من بين أكثر من أربعمائة شخص لجأوا إلى هنا.
انقضى أكثر من شهرين منذ زيارتي الأولى لهذا المكان، وعند عودتي، لاحظتُ كم كبر وتغير. حتى في الأسبوعين اللذين أمضيهما هنا ما زلت ألاحظ تغيره يومياً. في كل شهر، يعبر آلاف الأشخاص الحدود السورية هاربين.
اليوم تصل إلى هنا حافلة قادمة من سـوريا. الأوائل الذين لمحوا كيف تقترب عبر الطريق أشاعوا النبأ وسرعان ما تحلق الناس من حولها. الترقب والسرور بتجدد اللقاء يختلطان بالقلق خشية عدم الالتقاء بمن ينتظرونهم.
بين الهاربين، ثمة فكرة: العودة إلى سـوريا يوماً ما. لكن على هذه الفكرة يفرض الواقع نفسه، واقع الخوف. "إذا عدت إلى سـوريا سوف يقتلونني لأني ابني مقاتل"، يقول خالد فيما نشرب الشاي معاً. ليس ضرورياً تحديد في أي فصيل، لا فرق، فالخوف من الانتقام يعم جميع الهاربين. لكن، حتى في هذه الظروف، يعود البعض. الوضع صعب، المساعدة ليست كافية وكلما مر الوقت، كلما نفدت الموارد التي هربوا بها وأصبحت أكثر محدودية قدرتنا على المساندة.
بجانب هيكل الخيمة الجديدة، تصف زينب كَرْبَ من يبدأ بالبقاء من دون بدائل. "حالتي سيئة جداً؛ أنا هنا بدون زوجي، الذي مضى وقت من غير أن تصلني أخباره، وعليَّ أن أعيل أولادي الخمسة. لدي مشكلات في توفير الغذاء لهم. لا أعلم كم من الوقت سيمكنني التحمل. روحي منهكَة". العودة إلى سـوريا، التي فرت منها والتي علمت قبل بضعة أسابيع فقط أن ابن عمها قد مات فيها، تبدو خياراً حيال الأوضاع الهشة التي تعيشها في لبنان.
أودِّع زينب بـ "إلى اللقاء غداً"، عالمةً أنها ربما لن تكون هنا يوماً ما. أتساءل عما ينتظرها في الجانب الآخر من الحدود، وعما إذا كانت ستستطيع الالتقاء من جديد بزوجها والعودة إلى بيتها. أتساءل أيضاً كم من الأطفال، وإلى متى، سيستمرون في رسم خيام على الجدار عندما يريدون أن يعبِّروا عن صورة منازلهم.





http://elpais.com/elpais/2014/10/07/planeta_futuro/1412691854_655341.html

Monday 27 October 2014

أطفال، طائرات ومستقبل




أطفال، طائرات ومستقبل

نوريا بيرّو**- صحيفة الباييس الإسبانية


زحلة (لبنان) -  آية عمرها ست سنوات وهي خجولة جداً. عندما تكبر تريد أن تتزوج وأن تعمل مدرِّسة. أتساءل كيف ستفعل ذلك إذا كانت لم تذهب إلى المدرسة قط. كانت صغيرة جداً عندما اندلعت الحرب في بلدها، سـوريا، وتعيش حالياً في مستوطنة للاجئين في غرب لبنان. والدتها، فطومة، تروي لنا أن واحداً فقط من أولادها الخمسة وطئت قدماه فصلاً مدرسياً: "عندما بدأت عمليات القصف، محمد فقط، الذي بلغ الآن تسعة أعوام، كان يرتاد المدرسة. في كل يوم، عندما كان يذهب إلى المدرسة، كانت تأتي الطائرات وهذا ما سبب له خوفا هائلاً. حتى الآن ما زال غير قادر على  العودة إلى المدرسة نتيجة هذا الخوف".
هذا التوتر العصبي من الطائرات صار أمراً ثابتاً. في مناسبة أخرى، خديجة، المشارِكة في واحد من برامج منظمة "العمل ضد الجوع"، تطلب منا أن نصور أولادها وأولاد أخوتها، وهم، مسرورين، يتموضعون على أحد المقاعد. تحلِّق طائرة مروحية، وكما لو أن تياراً كهربائياً جرى في الصف: هم يختلجون والتوتر منعكس في وجوههم. تمر بضع ثوان حتى يستجمعوا أنفسهم، لكنهم لا يستعيدون ابتسامتهم المزهوة من أجل الصورة.
في كل يوم، تحلق طائرات مروحية، وحتى بعض المقاتلة، فوق المنطقة. وفي كل مرة يحدث ذلك، يجذبني واحد من الصغار من يدي لتنبيهي. يريدون أن أعلم أنه من هناك تأتي القذائف التي انحفرت في ذاكرتهم. بمساعدة ورد، الزميل من "العمل ضد الجوع" الذي يترجم لي، أحضر مذهولة محادثة بين أطفال وطفلات في العاشرة من أعمارهم يصفون فيها عمليات القصف، معطين تفاصيل لأربعة أنواع محددة، على الأقل، من القنابل. ليس ذلك صنف  المعرفة الذي يقرنه المرء أو يتمناه لذلك العمر.
أيضاً في كل يوم، حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، يختفي كثيرون داخل خيمهم ويخرجون في غضون بضع دقائق بوجوه نظيفة وشعور مسرَّحة. "إلى  المدرسة؟"، أسال بعربيتي المقلقلة والمكتسبة حديثاً. ويجيبون بابتسامة: "نعم، إلى  المدرسة". في وقت قصير تصل الحافلة وينبه بوقها أكثر من مائتي طالب من المستوطنه إلى أنها صارت هنا. إنها حافلة صفراء، كالتي نراها في الأفلام الأمريكية، ووجودها لا يفتأ يصدمني في هذا السياق.
ليست مدرسة مألوفة، وإنما برنامج أطلقته الأمم المتحدة من أجل الحفاظ على تعليم معين، لكنه لا يتبع المسار التعليمي الذي يجب أن يسلكوه. يتعلمون الانكليزية، يحسِّنون العربية، يغنون، يلعبون.... هناك فرصة أيضا للخروج من المستوطنة واستعادة نوع من الوضع الطبيعي. بفخر يُرونني كتبهم وينشدون الأغاني التي تعلموها.
أطفال كثيرون في بلدنا بدأوا للتو عامهم الدراسي. آخرون كثيرون في العالم ليست لديهم هذه الإمكانية، سبعة وخمسون مليوناً بحسب الأمم المتحدة. الذين يعيشون في مستوطنات اللاجئين السوريين يشكلون جزأ من هؤلاء الـ 42 بالمائة من السبعة والخمسين مليوناً الذين لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة جراء نزاع ما. حتى إذا كانت المسألة ستحل في المدى القصير، فإن الفجوة المفتوحة في تعليمهم ستؤثر جدياً على فرصهم المستقبلية.
ليس الأطفال خاصةً هم المتأثرين بهذا الصدد. لقد تعرّفت في هذه الأسابيع أيضاً على شبان كان عليهم أن يتركوا دراساتهم الجامعية وهم يستمرون على قيد الحياة حالياً بالعمل عندما يستطيعون كعمال مياومين في الريف. وصل أحمد أولاً مع شقيقه إلى جنوب لبنان ويقيمون الآن هناك مع زوجاتهم، شقيقاتهم، أولادهن وأولاد أشقائهم. في المجمل، سبعة عشر فرداً من عائلته يتكدسون في كوخ بائس داخل المزرعة التي يعمل فيها. في حلب كان طالبَ حقوق وبعد أربعة أعوام تقريباً من الحرب والهروب، مازال يتساءل ما إذا كان سيستطيع العودة إلى الكلية يوماً ما.
لكن ثمة أيضاً فسحة للأمل. أحد الأصدقاء من إحدى مستوطنات اللاجئين يقدم إليَّ في أحد الأيام شاباً ذا مظهر جدي ورسمي. يريدون أن يخبروني بأنه أنهى المدرسة الثانوية وأنه سيذهب إلى الجامعة. يأمل بدراسة البيولوجيا وبأن يصبح تقنياً في مخبر. إنه واع بأن ذلك سيكلفه جهداً ومالاً، لكنه يخطط للعمل من أجل تغطية المصاريف. "في سـوريا؟"، أسأله. وهو يجيب "إن شاء الله". لعل وعسى.



** فنية اتصالات في منظمة (العمل ضد الجوع).




http://elpais.com/elpais/2014/10/09/planeta_futuro/1412845654_712483.html