Monday 31 March 2014

ابتسم، إنهم يصورون




ابتسم، إنهم يصورون


لاورا بارو- صحيفة الباييس الإسبانية



بيروت- لبنان: وسط الكثير من الجلبة، لا تفتح فاطمة فمها؛ تخفض نظرتها وتنهمك في البحث عن الألوان لرسم الياسمين، نبتتها المفضلة. ترسمها حمراء، زرقاء، وردية، صفراء، كما لو أنها تخترع عالماً تحقق فيه الزهرة البيضاء توقها إلى قوس قزح. بعد بضعة أطفال، يستعمل بشار قطعة كرتون لخلق منظوره الخاص لـ "الطبيعة الميتة"، الذي يعنونه بـ : مرج  مع بيت في الخلفية. هناك في الرقة، من حيث جاء قبل عام، لم يبق له لا مرج  ولا بيت. كل مايملكه الصغير الآن للاستلهام يوجد داخل الجدران شبه المتداعية لمنزل كبير قديم يُعرف بـ "مخزن البصل"، في الفيضة، البلدة الصغيرة في وادي البقاع الشرقي بلبنان.

"لا أتذكر الكثير عن سـوريا"، تتوقف منهيةً كلامها فاطمةُ المنافسة المتفوقة، ذات الاثني عشر عاماً، في هذا النوع من مسابقات الرسم المُصمَّمَة من قِبَل أعضاء "ذاكرة"، الجمعية اللبنانية المتخصصة في تنظيم المشاريع التي تكون الصورة فيها أداة ومفهوماً. الجائزة: ترك الخيال محلقاً خلال يومين مع إحدى آلات التصوير بين اليدين. المسؤولون في "ذاكرة"، بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) التزموا بتقديم خمسمائة كاميرا (أحادية الاستخدام) إلى خمسمائة طفل سوري لاجىء في لبنان من أجل أن يكونوا هم أنفسهم من يرسمون يومياتهم بدون مدارس، بجواربهم المتسخة، وفرشهم تحت الأسقف البلاستيكية في الخيم المنصوبة في الطين.

المنافسة هي محض إجراء شكلي. "من خلال رسوماتهم نقيِّم مهاراتهم ورؤاهم"، يشرح أسامة أيوب، المصور الصحفي والمؤسس المشارك لـ ذاكرة، "لقد ركزت على فاطمة، مع زهراتها وكل أدواتها، لأن لقطتها جيدة جداً". عند قدميها، محيطين بغطاء يفصل الأوراق عن الأرض، يتشاجر اثنا عشر من الأطفال بين السابعة والثانية عشرة من أعمارهم على الإمساك بالشموع فوق البلاستيك. "بعضهم ضائعون"، يعلق أسامة، "لكنهم سيتداركون الأمر، أما الآن فإن ثلاثة أو أربعة منهم يبدون بالفعل قادرين على رؤية الأشياء للتصوير".

"لحظة2"، كما يُسمى المشروع، يسعى إلى رؤية ما تصفه الأمم المتحدة بأكبر أزمة للاجئين في التاريخ المعاصر بعيون أخرى، بريئة، غير منحازة. الـ 2 في الاسم يعزز البرنامج. "لحظة"، اختُبرت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، حيث تعيش ذرية النكبة منعزلة بلا مستقبل، بدون مواطنة، ومع الذنب المنسوب إليها بإطلاق خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990).

"نعتبر أنها كانت مشروعاً ناجحاً"، يدعي رمزي حيدر، المنظر الإيديولوجي لـ "ذاكرة"، "رأينا النتائج الإيجابية في الأطفال (الفلسطينيين) ونعتبر أن من المناسب إعادة المشروع في 2013 مع الأطفال السوريين اللاجئين". يونيسيف التقطت العصا. "وجدنا بعضنا البعض"، يضحك حيدر، المحمل بأكثر من ثلاثين عاماً من صور الحرب في العدسة وفي العين. المبادرة لها ثلاثة ركائر أساسية: الاتصال، التمكين، التوثيق. "الأثر الإيجابي الأول مع (لحظة) كان التواصل بين الأطفال الذين يعيشون في المخيمات" يوضح، "رغم أنهم يعيشون بالقرب من بعضهم البعض، في المنطقة نفسها، إلا أنهم يأتون من خلفيات مختلفة، فلا يتفاعلون؛ هذا المشروع يقدم لهم شيئاً مشتركاً، حيِّزاً من أجل الالتقاء والتواصل من خلال الكاميرا". في الوقت نفسه، بطريقة بدائية، يوفر المشروع لهم أداة جديدة للتعبير عن أنفسهم ويقدم لهم نظاماً جديداً. النتيجة هي خمسمائة صورة في الحد الأدنى مأخوذة برؤية فريدة، "مختلفة عن تلك التي لمصور محترف أو لمصور صحفي"، حسب حيدر، والتي ستسافر لاحقاً عبر العالم مطبوعةً  في كتاب ومجموعةً في معرض متجوِّل.

فيما تنتظر لرؤية اسمها مطبوعاً في الكاتالوغ، تبذل فاطمة قصارى جهدها في التعود على    الكاميرا. تسير بدون أن تنفصل الآلة عن الوجه، دامجة عينها بالهدف، بينما يحوم من حولها المتعطلون منتظرين التحول إلى أبطال لبعض من لقطاتها. بشار، الذي يعجبه التسلق، كان قد اعتلى الجدار الأكثر ارتفاعاً في المكان المُسوَّر بحثاً عن رؤية أشمل من عل.

مخيم الفيضة هو واحد فقط من الـ 33 مخيماً التي زارتها الجمعية في البقاع فقط. إليها تضاف مخيمات أخرى كثيرة في شمال لبنان وجنوبه وفي منطقة بيروت وجبل لبنان. في المجمل، ما يقرب من مائة من المستوطنات غير الرسمية التي ترفض الحكومة تصنيفها كمخيمات للاجئين. ثلاثة أعوام من الحرب في سوريا خلَّفت مليوناً من اللاجئين في هذا البلد "لبنان" (اثنان من كل خمسة من المليونين ونصف المليون من الأشخاص المنتشرين في المنطقة كلها والمعادل لـ 22 بالمائة من حوالي 4,5 مليون لبناني). النصف تقريباً هم من الأطفال، حسب سجلات وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. وهؤلاء معتادون على الأكل، البكاء، وحتى اللعب في بعض الأحيان.

"يعجبني لبنان" تؤكد فاطمة، "نلعب كثيراً مع الأصدقاء، وخاصة "لعبة التخفي" ". تضطلع بالمسؤولية عن ذلك هبة شعبان، المتطوعة في ذاكرة ومنسقة النشاطات التي ينظمونها مع الأطفال للترفيه عنهم. "كل يوم نذهب إلى مخيم، أولاً نعطي الأطفال الأوراق والألوان، وإلى الأصغر من 7 سنوات (الذين لا يشملهم المشروع) نعطيهم دفاتر للتلوين"، كما تقول. "في بعض المرات، مع مجموعة من الأطفال، نرقص، نغني، ونمضي الوقت معاً، وإذا كانت لدينا حالات خاصة، نحاول مساعدتهم، إذا استطعنا". "في نهاية اليوم، نعطيهم رزمة من الثياب: جاكيت، جوارب، أحذية".

"التقينا بأطفال لا يعلمون شيئاً عن أُسرهم"، يروي حيدر، "في لحظة ما فُقدوا، والآن يعيشون مع أشخاص آخرين". المفوضية العليا لشؤون اللاجئين أحصت ما يصل إلى 3500 طفل لاجىء وصلوا بدون آبائهم أو أن الحرب جعلتهم أيتاماً، في لبنان فقط، البلد الذي اكتشف فيه عدد مخيف من حالات سوء التغذية". إنه "تهديد صامت"، كما يصفه تقرير اليونيسيف المنشور في أواخر شهر أيلول| سبتمبر، "مرتبط بنظام صحي ضعيف، مياه شرب غير صحية، أمراض، نقص التحصين، وممارسات تغذية غير ملائمة". في العام الأخير فقط تضاعف مرتين عدد حالات سوء التغذية في لبنان، متجاوزاً المستويات التي تعدها منظمة الصحة العالمية "مقبولة" (ما بين 5 بالمائة و10 بالمائة؛ معدل انتشار سوء التغذية لدى الأطفال السوريين في لبنان هو 5,9 بالمائة).

حيدر، الذي بدأ مسيرته المهنية مصوراً الحرب في وطنه، يعترف أن تفرغه لـ "ذاكرة" و"لحظة" هو تقريباً سداد للدين، ولأجل البؤس المصوَّر في العراق، اليمن، تشاد، الجزائر أو ليبيا. "إنها مصالحة مع الذات"، كما يؤكد، "كمصور صحفي لم أهتم كثيراً بالصراع بقدر ما اهتممت بالواقع المعاش، الذي هو الدمار والموت، لأن المقاتل والجندي هم في مكان آمن، خلف المتاريس، حيث لا يسهل الوصول، لكن ما تراه فعلاً هو نتاج أسلحتهم". "الصورة الفوتوغرافية، يواصل كلامه، "لا تحقق التأثير اللازم في الناس، فلو كنا متأثرين بالفعل بتلك الصورما كنا لندخل في الحرب مرة تلو المرة، وما كان العالم ليمتلأ بالحروب". "الناس، ببساطة، تنظر إلى الصور وبعد ذلك ترميها جانباً".

في الفيضة، بعد وصول الموكب، الأطفال هم من "يطلقون". اشتعلت حمى التصوير وملكة، ذات الأربعة عشر عاماً (خارج المشروع)، قررت أن تحقق رغبتها في التصوير. تكاد تنتزع الكاميرا من أيدي أي غريب يسير بمنطقتها مشيراً إلى الهدف. تصبح في مزاج قيادي عندما تتمكن من الحصول على كاميرا مستعارة وتبدأ بالدق عليها بشغف، بدون انتظار تلقي التعليمات. الصور التي التقطتها حفظتْ في الذاكرة زملاءها، البعض منهم تصنّع وضعية الوجه المذهول، وأخريات "دلُّوعات" يستغللن شعاعاً من الشمس لجلب النظارات الشمسية. "لقد حرموهم من كل حق، يصِلون فزعين، ويعيشون، في بعض الحالات، مروَّعين"، يأسف رمزي حيدر، "بطبيعة الحال، هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى ما هو أكثر من آلة تصوير، لكن هذا ما نستطيع نحن فعله".








http://elpais.com/elpais/2014/03/24/planeta_futuro/1395661114_199469.html

Monday 24 March 2014

مصير الصراع السوري يقرر من الخارج





مصير الصراع السوري يقرر من الخارج

ورقة سوريا وأوكرانيا

سانتياغو ألبا ريكو- صحيفة الدياغونال الإسبانية


في السابع من آذار| مارس، عرض ناشطو كفرنبل، المعروفون بشعاراتهم المتقنة، لافتة بليغة: "الأخوة الأوكرانيون، لا تستسلموا للروس المتوحشين، استمروا إلى الأمام، اعتمدوا على أنفسكم ولا تتكلوا أبداً على المجتمع الدولي". فيما وراء المشاعر الموجزة المناهضة للروس، المبرَّرة بدعم بوتين لدمشق، وبالارتياب الذي لا يقل تبريراُ في الذين يعلنون عن أنفسهم في الغرب مدافعين عن  "الديموقراطية" و"حقوق الإنسان"، فإن لافتة كفرنبل تظهر أنه فيما لا يزال ما هو أكثر إيلاماً يحدث داخل سـوريا، فإن الأكثر الأهمية، الأكثر حسماً، يحدث في الخارج.

الشيء الأكثر أهمية الذي حدث في سوريا في الأسابيع الأخيرة حدث، بالفعل، في أوكرانيا.  الصراع الروسي الأمريكي -انطلاقاً من وضع أراد الكثيرون التعرف على أوجه شبه فيه-  يردد في أوكرانيا صدى تلك الحرب الباردة المزيفة التي بدأت في سوريا والتي يتوقع عودتها من أوكرانيا إلى سـوريا. وحيث أنه ما من قوة عظمى يمكنها السيطرة بشكل كامل على الناس وأنه لا يمكن الاستخفاف بالعنصر "الايديولوجي" في قرارات الأقوياء، فإنه لا يسعنا استبعاد تطور مأساوي، لكن من حيث المبدأ فإن كل شيء يشير إلى أن روسيا والولايات المتحدة، المضطرتين بسبب الاعتماد الاقتصادي المتبادل والمصالح المشتركة في نزاعات أخرى، سوف تجلسان للتفاوض حول أوكرانيا.

كيف سيؤثر ذلك على سـوريا؟، سـوريا هي ورقة لن تتوقف روسيا، المحترقة أصابعها في كييف، عن اللعب بها. في الوقت الحالي، أعلنت عن تعزيز مساعدتها لنظام بشار الأسـد كما عن تعليق تعاونها في برنامج نزع الأسلحة الكيميائية لدمشق. الولايات المتحدة، من جانبها، تعيد التفكير في سياستها الخجولة جداً بدعم الثوار، ملمحة إلى إمكانية إرسال أسلحة إلى المجموعات التي تقاتل ضد الأسـد.

"حوار داخلي"

إمكانية عقد جولة ثالثة من المحادثات -جنيف 3- تبدو الآن أكثر بعداً. هذا ما تعبِّر عنه تصريحات وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، الذي عدّ، بدعابة سوداء ساخرة، الاستقالة الوشيكة للأخضر الإبراهيمي، مبعوث الأمم المتحدة، أمراً مفروغاً منه، ودعى إلى حوار داخلي بين "الوطنيين"، من غير "ضغوط خارجية" ولا "إرهابيين"، مدركاً التغيرات في المشهد الدولي والأفضلية العسكرية للنظام على الأرض.

الشيء الآخر المهم الذي حدث في سوريا حدث في الخليج. الانقسامات القوية داخل مجلس التعاون الخليجي حملت العربية السعودية والبحرين والإمارات على استدعاء سفرائهم في قطر في الوقت الذي أعلنت فيه، على منوال مصر، الأخوانَ المسلمين (إلى جانب حزب الله، جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام) منظمةَ إرهابيةَ. من بين أمور أخرى متنازع عليها، تتعلق هذه الحرب الباردة الأخرى بين القوى السُنية، المعروفة بشكل أقل، بتمويل المجموعات الثائرة في سـوريا والتلاعب المصلحي بمسار الحرب، إلى جانب التهديد الذي يمثله الأخوان المسلمون للأنظمة الديكتاتورية في الخليج. على الأرض، ينضاف تراجُع جهاديي الدولة الإسلامية في العراق والشام لمصلحة الجبهة الإسلامية "المعتدلة"، التي يتنافس على النفوذ فيها العربية السعودية وقطر، ينضاف إلى كارثة الجيش السوري الحر. استبدال سليم ادريس، رئيس أركانه، تسبب في محاولة تمرد داخلي تم تجاوزها بشق الأنفس بعد تدخل أحمد الجربا، رئيس الائتلاف الوطني السوري.

الأزمة في اوكرانيا، في أي حال من الأحول، لم تلق بظلالها على كل تلك الازمات الفرعية فقط، وإنما، أسوأ بكثير، أزاحت من الاهتمام العام الوضع الداخلي في سوريا. لقد أبلغ تقرير داخلي للأمم المتحدة عن جرائم حرب فظيعة وضد الإنسانية ارتُكبت من قِبل بعض المجموعات المتمردة، لكن قبل كل شيء من قِبل النظام، المسؤول الأول والأخير عن الحرب السورية: حصارات قروسطية تهدف للتجويع، عمليات تعذيب، اغتصاب، قصف ممنهج على السكان المدنيين. في حِمص، في حلب، في ضواحي دمشق، أكثر من مائتين وخمسين ألف شخص مجبرون على الاختيار بين الاستسلام أو الموت جوعاً. حصار آخر يُضرب على العشرين ألف لاجىء فلسطيني المتبقين في مخيم اليرموك، حيث استؤنفت عمليات القصف بعد هدنة قصيرة جداً وشديدة الهشاشة سمحت بسحب بعض الأشخاص وإدخال بعض الأغذية. الفلسطينيون، الضحايا العالميون، ينتهون دائماً إلى دفع الثمن.

كما كتبت الفيلسوفة سيمون فايل Simone Weil أثناء الحرب الأهلية الإسبانية: في الحرب الأهلية توجد فقط "طبقتان اجتماعيتان"، طبقة الذين يملكون السلاح وطبقة الذين لا يملكونه؛ الذين يمتلكونه يتصرفون مع الذين لا يمتلكونه كما يتصرف الأغنياء مع الفقراء أو كما السادة مع العبيد. الذين لا يملكون السلاح جرت العادة أن يكونوا من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى؛ أي، الأعقل أو الأضعف، المعرضين لجميع الانتهاكات وكل الاعتداءات. الشعب السوري، بملايين اللاجئين، ومئات آلاف الموتى، وعشرات آلاف السجناء والمفقودين، ما زال يستصرخ السماء فيما الحرب الباردة الروسية الأمريكية المزيفة في أوكرانيا -المزيفة جداً وشديدة الخطورة- لا تغطي صرخاتهم فقط وإنما تهدد إضافة إلى ذلك بمفاقمة سوء مصيرهم.






https://www.diagonalperiodico.net/global/22165-la-carta-siria-y-ucrania.html

Sunday 16 March 2014

نعلِّم الأطفال رسم الزهور ولكنهم يرسمون الأسلحة




نعلِّم الأطفال رسم الزهور ولكنهم يرسمون الأسلحة

لولا ييرو- صحيفة الباييس الإسبانية


الذهاب إلى المدرسة ليس مهمة سهلة. يجب الاستيقاظ مبكراً، الانتباه لساعات إلى المدرِّس، الاجتهاد لفهم المواد، واذا كان هذا قليلاً، أداء الواجبات في البيت. هذا، بالنسبة لطفل عادي. إذا كنت طفلاً سورياً هرب من بلده، في حرب منذ آذار 2011، فالأمر سيتعقد أكثر: نقص في التركيز، اضطراب ما بعد الصدمة، وتصرفات عدوانية ضد الأقرباء والمدرسين، هي بعض العواقب التي تظهر في الذين يعودون إلى المدرسة في مخيمات اللاجئين. "أحياناً لا يريدون المجيء إلى الصف، لديهم مشكلات في تكوين الصداقات مع أطفال آخرين... لا يتواصلون. عقولهم في سـوريا ولا يركزون على عملهم المدرسي"، يشرح محمد، الأخصائي النفسي ومنسق التعليم الابتدائي في مدرسة اونكوبينار، في تركيا.

مخيم اللاجئين في اونكوبينار، المبني في تموز| يوليو 2011 هو ذلك الذي قد يريد أي أحد العيش فيه إذا لم يبق له حل آخر غير اللجوء إلى واحد من المخيمات. إنه كقرية صغيرة جيدة التنظيم، بشوارعه الممهدة، ساحاته وأبنيته الاجتماعية: مكتب البريد، محال متعددة للمواد الغذائية، مسجد، مدرسة، حدائق أطفال، ومنشآت أخرى تكسر التناظر في شوارع المقصورات غير المتناهية. هنا لا يجب عليك أن تعيش في خيمة، هنا يعاش في حاويات سكنية مكونة من غرفتي نوم مزودة بالكهرباء لأربع وعشرين ساعة، وموقد، وحمام، ومرحاض. بعض العائلات لديها تلفزيون حتى، السياج القبيح والإجراءات الأمنية القوية هي، تقريباً، العناصر الوحيدة في المشهد التي تجعلك تعود إلى الواقع.

اونكوبينار هو واحد من اثنين وعشرين مخيم للاجئين بني في تركيا من قبل حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وهو أيضاً الهيئة التي ترخص أو تمنع الدخول إلى المخيمات لطالبي اللجوء، المنظمات غير الحكومية أو الصحفيين. القول إنهم لاجئون هو خطأ في الحقيقة ذلك أن الحكومة لا تعترف بهذه الصفة للسوريين وإنما هم "ضيوف خاصون" أو "زائرون". إنه فارق مهم لأن شخصاً لا يُعترف به رسمياً كلاجىء لا يتمتع بحماية الشرعة الإنسانية الدولية ويفقد سلسلة من الحقوق، كالحق في عدم العودة إلى البلد الذي هرب منه إذا لم يرد ذلك.

حتى اليوم، أنفقت الحكومة التركية ملياري دولار لمساعدة أكثر من ستمائة ألف لاجىء -300000 في المخيمات- منهم ستون بالمائة من الأطفال، حسب معطيات وكالة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. مخيم اونكوبينار هو على بعد كيلومترين من كلس، آخر البلدات في جنوب شرق تركيا قبل الوصول إلى الحدود مع سـوريا. ملتصقين بالخط الفاصل بين السلام والحرب، بين أسواره يتعايش ثلاثة عشر ألف سوري، نصفهم تقريباً تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً. في محيطه يوجد فقط أراض مقفرة فيها عدة آلاف من أشجار الزيتون هي العنصر الرئيسي المطلق في المشهد.

الأرقام الخاصة بتعليم الأطفال السوريين هي الأسوأ في كل تاريخ البلد، فثلاثة ملايين تقريباً اضطروا إلى ترك دراستهم منذ 2011.  معدل الحضور قبل تفجر النزاع كان 97 بالمائة تقريباً أما الآن فقد انخفض، في بعض المناطق، إلى ستة بالمائة حسب اليونيسيف. في المخيمات التركية، الرقم يتحسن: ثلاثة وثمانون بالمائة ممن هم بين السادسة والحادية عشرة يحضرون إلى صفوفهم، لكن فقط 14 بالمائة من الذين يعيشون خارجها يعود إلى المدرسة، حسب تقرير وكالة الكوارث والطوارىء التابعة للحكومة التركية (AFAD). وفي تقرير أعد من قبل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين واليونيسيف يشار إلى أن واحداً من كل عشرة قاصرين، خارج المخيمات، يعمل بدلاً من الذهاب إلى المدرسة لمساعدة عائلاتهم من الناحية الاقتصادية.

المنشآت التعليمية في أونكوبينار توجد في بناء من الآجُرّ يحوي مدراس رياض الأطفال والابتدائية والثانوية. يراقب أسامة بفضول واحدة من القاعات الخالية لأنه يوم عطلة. الطاولات، نظيفة ومنظمة. السبورة، مع بعض الخربشات بالعربية المكتوبة بقلم أحمر. اللوازم والكتب، في رفوفها. رسم لأردوغان، آخر يمثل الاعتزاز بالشعب السوري الحر، وتقطيعات عدة لطيور وأزهار وأميرات ديزني تزين جدران الممر.

 وصل أسامة قبل بوم واحد فقط من حلب، مدينته، على بعد خمسين كيلومتراً من الحدود التركية وهي الأكثر سكاناً في البلد. هذا المدرس في الرابعة والعشرين من عمره كان يقوم بالتدريس إلى ما قبل شهر، عندما حملته كثافة القصف على الاقتناع بأن ذلك كان خطراً كبيراً. ذلك أن الطلاب والأساتذة كانوا قد انتقلوا، قبل أسابيع، إلى بعض المخازن تحت الأرضية سعياً وراء شيء من الأمن رغم وجودهم في المنطقة الثائرة، الأكثر معاناة على أيدي القوات الحكومية. "كانت المدرسة تضم حوالي 4000 طالب فيما بين ستة وثمانية عشر عاماً، لكن بعد عمليات القصف الأخيرة، لم يبق ولا حتى 400"، كما يشرح. "على الرغم من ذلك، تسعون بالمائة من تلامذتي لم يكونوا يريدون التخلي عن الحضور، كانوا يتحدون الأسـد"، يقول بفخر.

الأطفال يتبعون مناهج الدراسة السورية، التي تتضمن مواد الرياضيات، العلوم، اللغة الانكليزية، والعربية. إذا رسبوا، يعيدون السنة. عن تعليمهم يضطلع بالمسؤولية مائة وخمسة وستون متطوع سوري، لا غنى عنهم لأنهم يعرفون اللغة والثقافة والنظام التعليمي في بلدهم، وثلاثة وعشرون آخرون من مدرسي اللغة التركية، وهي إلزامية. تشرح ذلك غونول سيلين، منسقة التربية في المخيم كله. "معظم الطلاب جاؤوا في بداية الثورة، وهكذا فهم لم يعودوا يعانون من صعوبات، وهذا ما ينعكس في نتائجهم"، تضيف.

المعطيات المنشورة من قبل حكومة أردوغان تكشف، رغم ذلك، أن نصف اللاجئين يعتقدون أنهم أو أقرباءهم يحتاجون عناية نفسية، وأن خمسة وعشرين بالمائة من الأطفال يعانون مشكلات في النوم. "ليس هناك مساندة نفسية منظمة. من يحتاج شيئاً يتوجه إلى محمد وهذا يعتني به"، تؤكد سيلين، في إشارة إلى الأخصائي النفساني- المنسق المسؤول عن مرحلة رياض الأطفال. رجل واحد فقط لثلاثة عشر ألف سوري هربوا من القنابل. في غضون ذلك، قدمت اليونيسيف مساعدة نفسية إلى اثني عشر ألف قاصر في البلد كله في الشهرين الأولين فقط من عام 2014 وتأمل الوصول إلى حوالي 103500 على مدار العام.

شوبار، مدرِّسة العربية في المدرسة الثانوية منذ عامين ونصف ومع 3900 طالب تحت مسؤوليتها، هي أكثر إيضاحاً. "الطلاب شاهدوا القنابل، الدم؛ شاهدوا الموتى، أحياناً من أقربائهم. بعضهم فقدوا آباءهم ، ويتحدثون فقط عما يجري في سـوريا. من الصعب أن يركزوا على شيء آخر"، كما تشرح. بالفعل، ثلث الـ 200000 لاجىء في تركيا فقدوا على الأقل عضواً واحدا من أسرهم، حسب وكالة AFAD  التركية.

"الأطفال يلعبون لعبة الحرب. نعلمهم رسم الزهور ويرسمون الأسلحة"، تؤكد شوبار. رغم ذلك، فإن العمل المتواصل للمدرسين والمتطوعين والمنظمات غير الحكومية أخذ يعطي ثماره، برأي هذه المعلمة. "لا يمكن أن نجعلهم ينسون، لكن بالرغم من ذلك أرى تطوراً إيجابياً".

مصير طفل ما يمكن أن يتغير جذرياً بفارق بضعة كيلومترات فقط. في اونكوبينار، ثمة متطوعون، مديرون، وعدة منظمات غير ربحية يعملون من أجل أن يحصل الصغار على تربية كريمة عبر نشاطات مثل التي تقوم بها اليونيسف في ما يسمى بـ "فراغات الحماية الخاصة". إنها أماكن آمنة ومرحِّبة حيث يستطيع الصغار القيام بنشاطات ترفيهية وتربوية كالرسم أوالصناعات اليدوية التي تتيح لهم التعبير عن أنفسهم بشكل حر. رغم ذلك، على بعد بضعة كيلومترات فقط، الواقع هو أنه في مدن مثل حلب، الرقة أو حمص، من المستحيل الذهاب إلى المدرسة رغم جهود المنظمات غير الحكومية التي تعمل على الأرض، كالتركية IHH أو أطباء بلا حدود، ومسعى المدرسين كأسامة، الذين يفتحون صفوفهم رغم هطول القذائف.

"ثمة تناقض لافت مع أهداف الأمم المتحدة للألفية. في جانب من السياج نستطيع الكلام عن إنجازها، لكن في الجانب الآخر لا يُحترم حتى الحق في الحياة للاطفال"، يتأمل أمين يوجيكايا، نائب مدير مخيم اللاجئين. "التعليم هو حق، وهدف للأمم المتحدة، لكن الحق في الحياة هو أكثر أهمية. هنالك الكثير من الطرق للتربية، لكن الشرط الأول الذي يجب توفره هو أن لا تكون هناك حرب"، يقول منتقداً.

بعد ظهيرة أحد أيام كانون الثاني| يناير، تجفف الشمس الثياب الممدة على طول كل واحدة من المقصورات، مشكلة صفوفاً طويلة من الألوان التي تواجه اللون الأبيض لممرات وممرات مليئة بالحاويات السكنية. محمد ورشا يلعبان مع بعض الأصدقاء لأنه يوم عطلة وليس عليهم ان يذهبوا إلى المدرسة.

محمد يبلغ خمسة عشر عاماً، ذو نظرة مشاكسة، ويدرس في الصف السابع، ولو أن أحداً لن يتوقع ذلك لأنه أصغر بكثير مما ينتظر من فتى في عمره. ذهب إلى المدرسة لخمس سنوات في سوريا وبعد ذلك ضيع عاماً كاملا، حتى عاود الدراسة في المخيم، الذي وصل إليه في حزيران| يونيو 2012. رشا تبلغ اثني عشر عاماً وتؤكد بابتسامة خجولة أنها قد نسيت كل ما حدث في حلب، مدينتها، منذ أن بدأت الحرب حتى غادرت من هناك مع أسرتها، قبل عام."لكن الأسد حمار"، تتمتم قبل أن تذهب للعب.

رباب، أم لطفلين آخرين في السابعة والثامنة، تؤكد أنها سعيدة جداً بالتعليم الذي يتلقاه أولادها. "في البداية واجهوا مشكلات لأنهم كانوا خائفين من الطائرات والقنابل، التي مازالوا يسمعونها حتى الآن من هنا، لكن الآن أنا سعيدة لأنهم يأتون بنتائج جيدة إلى البيت"، كما تؤكد. مثلها، 67 بالمائة من المقيمين في المخيمات يؤكدون أنهم راضون عن التعليم الذي يتلقاه أولادهم، حسب وكالة AFAD التركية، الهيئة الوحيدة التي قامت باستطلاع من هذا النوع.

لكن المطالبات ما زالت حاضرة: "نحتاج المزيد من الأخصائيين النفسيين والمزيد من اللوازم المدرسية"، كما يصف أسامة في بريد الكتروني بعد أسبوعين على وصوله إلى المخيم. لقد بدأ العمل كمدرس متطوع وهو ليس راضياً عن الصورة المثالية التي توفرها النظرة الأولى: "المشكلات الرئيسية هي النقص في الكتب وفي رواتب المعلمين، ذلك أننا نتقاضى خمسين دولاراً فقط في الشهر. التعليم هنا ما زال رهناً للفوضى".





http://elpais.com/elpais/2014/03/06/planeta_futuro/1394130266_237033.html

Sunday 9 March 2014

عمَّان، ملجأ الشك والأمل




عمَّان، ملجأ الشك والأمل

خابيير بيريث مارتينيث- موقع: ريبليون


  
"التجربة تقول لي إن المهاجرين الذين يأتون (مع تفجر الحرب) لا يعودون"، يستنتج الحلواني، الأردني السبعيني. على الأقل، ذلك ما حدث مع الفلسطينيين المطرودين من أرضهم في 1948، في ما يعرف بالنكبة، ومع بعض العراقيين القادمين عبر الشرق منذ غزو العراق في 2003، أيضاً هذا ما يحدث مع آلاف الأشخاص الذين عبروا أو سيعبرون الحدود جنوب سوريا للبحث عن ملاذ من الحرب. الكبار يرون أن التاريخ يتكرر ويبدون قلقين "لأننا لا نعلم إذا كان في مقدور الأردن استقبال المزيد من الناس".
للدفاع عن حيواتهم، يقرر آلاف الأشخاص الشروع في رحلة مع الكثير من الألم. في حين تتلاشى غريزة البقاء، تزداد رغبة الاستقرار. في عمَّان، يولِّد ذلك البحث المتواصل عن "بيت" جديد عداوات، إلا أن مدناً قليلة كانت ستقدم استجابة أكثر مثالية لهذه القضية. اللاجئون "مشكلة كبيرة"، لكنهم "مشكلتنا نحن"، يدافع الحلواني، ذلك أن "الفلسطينيين كالسوريين هم أخوتنا". مع الوضع الإنساني الذي يتفاقم يظهر شعور عميق من الشك: "لا السوريون ولا الأردنيون نعلم متى ستُحل هذه المشكلة والناس يبحثون عن مستقبل". رغم أنهم لا يستطيعون العمل من الناحية القانونية، إلا أن "السوريين يقبلون رواتب أكثر انخفاضاً من الأردنيين  والأردنيون يمكن أن يبقوا بدون وظائف".
تنضاف أسباب أخرى لعدم الثقة. في تقييم للمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة يشار إلى انخفاض الرواتب بسبب التنافس العمالي. أيضاً تزداد تكاليف الحياة، "تزداد أسعار إيجارات المساكن، ومنتجات أخرى، والخدمات الأساسية". الأردن هو بلد ليس لديه الكثير من الموادر. "نحن البلد الثالث الأقل ماء في العالم"، يقول الحلواني مشيراً إلى بعض الزجاجات البلاستيكية، ويؤكد بعد صمت قصير: "لدينا نقص كبير في المياه الصالحة للشرب". لهذا كله، يشعر أنه "يوجد خوف حالياً". حتى الآن تُسمَع فقط تعبيرات خجولة، لكن إذا ازداد الواقع سوءاً، فهو يشك في أن الناس "المرتبكين"، أمام مستقبل غير أكيد، "سيحتجون، وسيتشاجرون بعضهم مع البعض الآخر".
من جانب آخر، الحلواني نفسه هو من بين الأكثر تشككاً في رؤية حل سريع. مدمرةَ ومجزأةَ، "أرى سـوريا كالصومال". في هذا السياق يفضل عدم تعليق آمال على محادثات السلام بين النخب السياسية :"لا أثق في مؤتمر جنيف". شكوكه حول فعالية القمة ربما تنبني على افتراضه اتفاقاً تكتيكياً في مجلس الأمن على حرب طويلة الأمد. في الأسابيع الماضية، وبينما كانت ديبلوماسية "الأطراف" تتلاقى في جنيف 2، أثبت تقرير نشر في يومية الغارديان، مع 55000 صورة سُلمت من منشقين عن الشرطة العسكرية، التعذيب والتصفية الجماعية للمعارضين المسجونين من قبل النظام السوري. يُضاف إلى ذلك  تقرير آخر من هيومان رايتس وتش كشف عن تدمير المساكن كسلاح للحرب.
مسرح الحرب جلب أكبر المظالم في العالم إلى ملايين الأشخاص، الذين، أمام هذه القسوة، يستمرون في الكفاح ليخلفوا الموت وراءهم. في ثلاثة أعوام تقريباً من الصراع، وصل ستمائة آلاف شخص تأثروا به إلى المملكة الهاشمية. تقييم الأمم المتحدة المذكور آنفاً يقدر أنه سيكون هناك ثمانمائة ألف لاجىء بحاجة للحماية في أواخر 2014". منذ البداية، كما تثمن الناطقة باسم المفوضية العليا للاجئين في إسبانيا، ماريا خيسوس بيغا، كان هناك تضامن كبير مع اللاجئين ."كل البلدان المجاورة تركت حدودها مفتوحة والاستجابة التي أظهرتها كانت مدهشة. الأردنيون، الأتراك، اللبنانيون، فتحوا أبواب بيوتهم لأشهر كثيرة". لكن اليوم تجاوز العبء طاقة الجميع: "نحن في العام الثالث تقريباً وحيث يأكل اثنان لا يأكل ثمانية عشر".
أكثر من نصف اللاجئين يأتون من درعا، المدينة السورية الجنوبية، على بعد عشرة كيلومترات من الحدود الأردنية حيث أشعلت حرارة الربيع العربي فتيل الثورة في تضامن مع أقرباء بعض المراهقين المتعرضين للتعذيب. يلفت الانتباه أن اللاجئين يمثلون طبقة وسطى واسعة ويأتون من مناطق حضرية، حيث يفضلون الاستقرار أيضاً. على هذه الشاكلة يختار ثمانون بالمائة، ثلثهم (160000) يقيمون في عمَّان. عائلة عوض تطلب المساعدة من الأمم المتحدة في مكتب التسجيل في العاصمة بنية الاستقرار هناك. "لم نرد البقاء في الزعتري، ثمة بؤس كبير"، يقول مسلَّم، الشقيق الأكبر، بينما يلقي نظرة ليتأكد من أن استمارة تسجيله قد أُنجِزَت بالشكل الصحيح. والدا مسلَّم وأبناؤهم الخمسة ينتظرون دعوة الحارس التي تعلن دورهم. المنحة، التي تتراوح بين خمسين ومائتي دينار أردني (الدينار الأردني يعادل يورو تقريباً) استناداً إلى حجم العائلة والإيجار، ستنفعهم للبقاء في عمَّان. هذا سيعني إضافةً إلى ذلك، "أن أخوتي الصغار سيكون بإمكانهم الذهاب إلى المدرسة".
في المخيمات يبقى الضعفاء الذين يفتقرون إلى المدخرات ولا يستطيعون الاستغناء عن المساعدة الإنسانية. في داخل مخيم الزعتري، المتحول إلى رابعة كبريات مدن البلاد، المصدر الأكبر للدخول يُحصل عليه بإطلاق الخيال للانتشار في السوق غير الرسمي وببيع المنتجات من تبرعات المنظمات ووكالات التعاون. الانتقال إلى المناطق الحضرية، يلحظ التقرير المشار إليه، يستدعي تحسناً في أوضاع اللاجئين. لكن من يصلون إلى المدينة وتنفد نقودهم يجدون أنفسهم مضطرين إلى إرسال "أولادهم للعمل وتخفيض استهلاك الغذاء"، بل إن هناك عائلات كبيرة من عشرين إلى ثلاثين شخصاً تتقاسم غرفتين أو ثلاث غرف".
في الطريق الى المركز، بالقيادة خلال التلال الممتدة، تبرز مراكز تجارية خاصة بمدينة حديثة، في تناقض مع أرض مقفرة تقوم بدور مزبلة. أبنية الإدارة تظهر صوراً ضخمة لسلالة حسين الحاكمة. بين بعض صور الواجهة المصابة بجنون العظمة، تنحشر أبنية ضاربة إلى السواد، متسخة بفعل المطر القليل الموحل  والتلوث الناتج عن حركة مرور لا تنقطع. الشوارع تضيق عندما تلامس آثار بقايا مدينة قديمة. ساحة السوق تضم عالماً من الحيوات، الروائح، والألوان. المصابيح التي تتدلى من المظلات تضيء أكشاك الفواكه والخضار التي تتكدس حسب أصنافها. أصحاب الدكاكين ينادون على أسعار منتجاتهم. "كيلو من التمور بدينار أردني"، يكرر أحد الباعة. بعد سوق الفاكهة والخضار يوجد بازار على الزاوية، في ذلك المحل تتوالى حركة أشخاص من جميع الأوضاع والثروات: من الأبناء الكبار لعائلة راني ذات الأصل السوري، مالكة العمل التجاري، إلى الأقرباء والأصدقاء، الذين يجدون هناك دعماَ يومياً.
يدخل وسام بشكل مستمر استجابة لطلبات محل آل راني. هذا السوري الذي مازال في سن البلوغ، يعمل نادلاً في المقهى المجاور. عمره خمسة عشر عاماً رغم أنه يبدو أكبر في تعامله مع الزبون. أسمر، ممتلىء الجسم،  يفيض وداً. يروي بفخر أنه يعمل ليساعد أسرته وينهي ابتسامته فقط عندما يذكر والده: "إنه حزين، لم يجد عملاً بعد وسيعجبه أن يعود إلى دمشق". وصل وسام قبل نصف عام إلى العاصمة الأردنية هارباً من الصراع صحبة عائلته. قبل أن يواصل عمله بحيوية يروي أنه، بفضل أصدقاء قدامى، لم يحتج إلى طلب المساعدة.
بشكل عام، يفضِّل الواصلون حديثاً عدم طلب المساعدة إلى أن يصبحوا بحاجة إليها. تلاحظ المندوبة بيغا أنهم يجعلون الأمن أولوية لهم. "ثمة أناس لا يريدون أن يطلبوا الحماية، لا يريدون التسجيل كلاجئين، أو يفضلون أن لا يفطن إليهم أحد كالأردنيين". في البداية هذا ممكن، "لكن فيما بعد لا يبقى لديهم ما يعيشون منه. لهذا، يبدأ كثيرون منهم بالحضور لتسجيل أنفسهم طالبين أقصى الحيطة". يخافون "ممن يتحدثون إليهم وممن لا يتحدثون". هنالك شباب يشعرون بأنهم مراقبون ويخافون الأعمال الانتقامية التي يمكن أن يتعرض لها أقاربهم الذين ما زالوا محاصرين في الحرب". إنها حالة ابن عم ماهر راني، المسؤول عن السوق، الذي يخشى أن تكشف هويته. "كل الناس يعرفون أنه هرب بعد قتاله في صفوف المعارضة"، ويفكر أنه سيمكنه العودة فقط إذا سقط الأسـد.
بشكل من الأشكال، تحولت البلدان المجاورة إلى ساحات خلفية للحرب. هناك، تمضي حيوات كثيرة إلى قوائم جرد وكالات التعاون وأخرى كثيرة تضيع بين عمليات التسجيل والإحصاءات. وهكذا، تتأرجح تلك الحيوات بين جانبين، جانب الأمل بالعودة يوماً ما أو جانب اليأس من العودة حيث لا مكان للرجوع إليه. زيغمونت باومان في دراسته "أرخبيل الاستثناءات"، يحقق في كيف أن "اللاجئين هم فضالة الإنسانية المشخصة:(...)  بدون نية وبدون إمكانية واقعية للاستيعاب والاندماج في العنصر الاجتماعي الجديد. (...) آمالهم بأن يعاد تأهيلهم ليصبحوا أعضاء شرعيين ومعترفاً بهم في المجتمع الإنساني هي، في الحد الأقصى، غير مشجعة وبعيدة إلى حد كبير". في عمَّان ما زالت تتجذر الكثير من الحيوات المسروقة. لكن، إلى متى؟ العزاء الوحيد الذي يهدِّىء الكثير من الشك، هو تذكر أن الكثير من تلك الحيوات ثارت  في سبيل العدالة والكرامة.

                                                                             



http://www.rebelion.org/noticia.php?id=181273&titular=amm%E1n-refugio-de-incertidumbre-y-esperanza-