Thursday 11 December 2014

أطفال حلبَ الضائعون




أطفال حلبَ الضائعون

أنتونيو بامبلييغا- صحيفة الباييس الإسبانية

حلب- سـوريا: واحدة. اثنتان. ثلاث... تأخذ الأيدي بالارتفاع بخجل. ينظر الأطفال بعضهم إلى بعض حائرين بعض الشيء. "يا آنسة، عندما يُشار إلى الأقرباء المتوفين، فهل المقصود هم من توفوا جراء الحرب؟"، يسأل طفل ذو خدين متوردين جالس في المقاعد الأخيرة من قاعة الصف. توافق المعلمة بهز رأسها. أيادي تسعين بالمائة من الأطفال، الآن نعم، ترتفع في الهواء. أمهات. أخوة. آباء. أجداد. أولاد عمومة. أعمام. الجميع فقدوا، على الأقل، واحداً من القرابة القريبة منذ أن بدأت الحرب الأهلية في سوريا.
تجلس نور في الصف الأول. "إنها تلميذة مجتهدة"، توضح أم مضر، مديرة هذه المدرسة السرية الواقعة في شرق مدينة حلب. تلون الطفلة، البالغة تسعة أعوام فقط، جسم لعبة الاسفنجة بوب Sponge Bob . الصغيرة، المركزة لكي لا تشت، تعض على لسانها. "كنت ذاهبة مع جدي لشراء الخبز وسقط منهاراً إلى جانبي"، تتذكر نور. رصاصة قناص أنهت حياته أمامها. تكشر تكشيرة صغيرة وتستمر بتلوين رسمها.
"أنا لن يمكنني أن أغفر للأسد أبداً. سأقتله بيديّ هاتين لو استطعت. لن يكون هناك سلام له ولا لمن يساندونه"، تؤكد بحدَّة. إنها صبية باسمة ومِن أفضل مَن في الصف. عمرها عشرة أعوام فقط، لكنها ستكون قادرة على إنهاء حياة رئيس سـوريا لو وجدته أمامها. "قتلت قنبلة أمي وشقيقتي الصغيرة (ستة أعوام) بينما كانتا في صالة منزلنا"، تروي الطفلة التي تبدأ عيناها اللوزيتان بالامتلاء بالدموع. تقترب المعلمة من طاولتها لمعانقتها وتقبيلها.
على بعد بضعة مقاعد أمام فاطمة يوجد الصغير فيصل، ثمانية أعوام. الطفل يلون ويلون بغضب رسماً حيث يُرى والدُه، الجندي في الجيش السوري الحر، يقاتل بمواجهة دبابة. "أنا فخور جداً به"، يعلِّق ولا يرتفع نظره عن الورقة البيضاء التي تمتلىء، شيئاُ فشيئاُ، بالألوان. "عندما أصبح كبيراً سأكون جندياً مثله"، يؤكد. "مات والده في المعركة قبل عام ونيف"، تقول أم مضر. منذ ذلك الحين لم يعد الصغير فيصل يتكلم كثيراً ولديه عرَّة عصبية خفيفة في الشفة السفلى. صار نفوراً ويفكر فقط في أن يصبح كبيراً من أجل الانتقام لوالده الميت. "أفتقده كثيراً"، يقول مؤكداً قبل أن يعود إلى الانهماك في رسمه.
"الغالبية العظمى من الأطفال لديهم مشكلات نفسية خطرة. عندما يستمعون إلى صوت طائرة أو مروحية يلوذون بصمت كامل منتظرين أن تمر أو أن ترمي برميلاً من الـ تي ان تي. البعض يبكون رغماً عنهم. آخرون يتبولون على أنفسهم..."، تؤكد أم مضر.
"أثناء الليل أحلم بأن الموتى ينهضون ويلاحقونني"، يقول فيصل. "أنا أحلم بالشيء نفسه!". "وأنا!". "وأنا!". تنضم أصوات رفاق آخرين من الصف إلى صوته. حسب تقرير لليونيسيف، يُلحق الصراع أضراراً جسيمة بحوالي ستة ملايين من الأطفال. الذين يوجدون في وضع أكثر مدعاة للقلق هم المليون من القاصرين المحاصرين مع عائلاتهم في المناطق المحاصرة أو حيث لا تصل المساعدات الإنسانية. تقدر اليونيسيف أن حوالي مليونين من الأطفال السوريين يحتاجون مساعدة نفسية وعلاجاً.
أم مضر، اثنان وثلاثون عاماً، أسست هذه المدرسة الصغيرة السرية قبل ستة شهور. من أجل هذا "احتلت" منزلاً منخفضاً في حي من أحياء شرقي حلب. إلى هنا يحضر مائتان وأربعون طفلاً من كل الأعمار. "عندما بدأ النظام بقصف المدارس قررنا البحث عن مكان آمن لا يلحظه الطيران. نعيش مختفين كالفئران"، تقول المعلمة.
في الثلاثين من نيسان|أبريل المنصرم قذفت إحدى طائرات نظام الأسـد عدة براميل من الـ تي ان تي على مدرسة في حي الأنصاري. مات في ذلك الهجوم ثمانية عشر شخصاً، أغلبهم من الأطفال الذين كانوا في صفهم لحظة الهجوم. "لدينا حديقة قريبة. في إحدى المرات أخذنا الأطفال إلى هناك ليلعبوا بالأراجيح، لكن قنبلة سقطت على بناية قريبة... ومنذ ذلك الوقت لا يخرج الصغار من قاعات صفوفهم"، تتذكر أم مضر.
من المدرسة إلى التسول
عشرات من الأطفال يتجولون في شوارع حي السكري حاملين في أيديهم دلاء صغيرة من البلاستيك أو صواني من النحاس الأصفر. بعضهم يضحكون، آخرون يمشون مطرقي رؤوسهم في صمت مؤرجحين الدلاء نحو الأمام والخلف. "نذهب للبحث عن الطعام"، يؤكد محمد، خمسة أعوام. "آتي إلى هنا كل يوم لنتمكن من الأكل"، يقول الصغير الذي يرافق شقيقته الكبرى، عائشة، تسعة أعوام. "هكذا نأكل نحن، ثمانية أشخاص. إنه لا يكفينا ونعاني من الجوع. في بعض الأيام لا يصل الطعام إلى جميع الجيران ونبقى بلا أكل"، تقول الصبية.
مجموعة من الأطفال ينتظرون بصبر مستندين على سياج بناء. واحداً تلو الآخر يدلف الفتية إلى داخل المنزل حيث تقدم لهم إحدى العجائز الطعام. اليوم توجد معكرونة بالطماطم. خمس جفان كبيرة مليئة بالمعكرونة موضوعة قريباً من المرأة التي تصب الطعام بمغرفة. مصطفى، ستة أعوام، ينظر بعيون مفتوحة على اتساعها. يتصاعد الدخان من المعكرونة والطفل لا يستطيع مقاومة إغراء حمل شيء منها إلى فمه.
أم محمود، ستون عاماً، تتعاون مع منظمة غير حكومية صغيرة تقوم بتوزيع 400 كيلوغرام من الطعام على الأكثر احتياجاً. هي، في كل يوم، تجلس على مقعدها البلاستيكي الهزيل وتنتظر أن يأتي الأطفال بحثاً عن الطعام. "الأكثر قسوة هو سماعهم يطلبون الطعام. أمر يحطم فؤادي"، تقول المرأة بصوت منكسر. "يجب ألا يمر أي طفل بحالة مثل هذه. هذه ليست حياة لهم"، تؤكد فيما تتدفق الدموع من عينيها وتنزلق على خديها.
"ادفع، ادفع!"، يقولها أحد الفتية لآخر محاولاً إصعاد العربة الصغيرة، المحملة بأربع صفائح (بيدونات) زرقاء، مرتقى منحدراً في حي بستان القصر. فتى صغير ثالث ينضم إلى الأخوين الاثنين وفي النهاية يتمكنون، ثلاثتهم، من أن لا تبقى العجلات عالقة في الحفر التي لا نهاية لها الناتجة عن آثار قذائف الهاون الموجودة على الرصيف. تترجرج المياه عند الفتح وتنسكب على الشارع المغبر.
أصبحت المياه ترفاً. عشرات من السكان يصطفون أمام خرطوم مياه ضيق ليملأ لهم أحد الأطفال الدلاء، القناني، الصفائح، وحتى أدوات المطبخ. "نحن نعيش في الطرف الآخر من المدينة وقد جبنا عدة أحياء من حلب بحثاً عن الماء"، يعلق مصطفى.
"أتينا بحثاً عن المياه لأنه منذ أكثر من شهر لا تخرج نقطة منها في منزلنا. نستخدمها للاغتسال ولكي تطبخ أمي"، يقول حمودي، عشرة أعوام، ومتعته الكبرى هي الذهاب بحثاً عن الماء في الأحياء المجاورة. من دون مدرسة، هو وأصدقاؤه، تحولوا إلى نوع من المستكشفين بحثاً عن (الكأس المقدسة). "إلى ما قبل بضعة أسابيع كنا نستخدم صنبور أحد المساجد في أرض الحمرا، لكن طائرة دمرته وبقينا بلا ماء. لكننا نبحث ونبحث كل يوم"، يقول الصغير بينما يتوارى داخل منزله صارخاً بوالدته لتساعده في الزجاجات التي يحملها بين ذراعيه.
الأطفال الجنود
اللونان الرمادي والأسود يصبغان السماء وجدران الأبنية الكبيرة المحفورة بثقوب الشظايا. صلاح الدين هو قطعة جبن هائلة (مثقوبة) على شكل حي (سكني). الصمت يقطعه صوت الماء المتدفق من المواسير المثقبة بشظايا قذائف المدافع. حيث كانت توجد سابقاً بنايات سكنية يتبقى الآن فقط هياكل ضخمة من الخرسانة. مدفأة تتقيأ نفثات من نار برتقالية. يضعون أيديهم أقرب ما يمكن لتدفئتها. البرد يخترق العظام. واحد من الفتيان المُرد الأربعة المسؤولين عن إحدى زوايا حي صلاح الدين يضع إبريق شاي على المدفأة.
"أتعلم ما هو الشيء الوحيد الذي أفتقده من المدرسة؟ اللعب بكرة القدم مع أصدقائي أثناء فترة الاستراحة. كنت ألعب قلباً للهجوم والحقيقة أنني كنت جيداً تماماً في تسجيل الأهداف ... حلمي كان اللعب مع ميسي واِنييستا"، يقول سمير قبل أن يلوذ بصمت حزين.
ينظر الفتى، ذو السبعة عشر عاماً، إلى يديه التي تمسك بـبندقية AK-47 شبه مفككة. أحلامه صارت الآن بعيدة تماماً... انفجار قوي يقربه من جديد إلى الواقع. يضع يديه أمام مدفأة يغلي عليها إبريق الشاي. مضى زمن طويل منذ أن ترك مدينته للقتال في أطلال هذا الحي الشبح. استبدل لوحات التحكم بألعاب الفيديو بالأسلحة الأوتوماتيكية وأُسرته صارت الآن هذه المجموعة من الفتية.
"لم تعجبني الدراسة قط، لم أبل فيها بلاءً حسناً... وهكذا تركتُ المدرسة وبدأت العمل في المحل مع والدي. أعتقد أنني في ذلك اليوم أحبطتُ والديَّ اللذين كانا ينتظران مني شيئاً أكبر"، يتذكر متأسفاً هذا الفتى الذي كان متفرغاً لبيع الهواتف المتحركة إلى أن وصلت الحرب إلى بلدته.
إلى جانبه يوجد عبد القادر، خمسة عشر عاماً، أصغرهم سناً. "لدي أربعة أخوة أصغر مني. أشتاق إليهم... أنا الكبير وكانوا يلعبون معي دائماً. مضت شهور لم أرهم فيها. دائماً عندما أتحدث مع والدتي أسألها عن أشقائي؛ لكنني لا أريد التحدث معهم. سوف يجعلونني أبكي، هذا مؤكد"، يعلق مصطنعاً القسوة. "حسناً... وأنت من المؤكد أنك تبكي أيضاً"، يقول سمير دافعاً وممازحاً لصديقه. "ممكن جداً، نعم..."، يؤكد هذا الجندي الشاب، المتحدر من مدينة إدلب.
"والدي جندي في الجيش الحر في محافظة إدلب وكان هو من شجعني على الالتحاق بهم"، يقول محمد، ستة عشر عاماً. يقول إنه قتل خمسة من جنود النظام. "ما أفتقده أنا هو القدرة على النوم دافئاً أثناء الليل"، يؤكد. لا يريد التحدث عن أسرته. أفضِّل عدم التفكير فيهم، هذا يساعدني على التركيز على الحرب"، يؤكد.
"الحرب ليست سيئة جداً... يموت الناس وهكذا، لكن في النهاية هي شديدة الشبه بلعبة فيديو"، يقول سمير، الهاوي للعبة Call of Duty. "أنا جيد حقيقةً، وخاصة في وضع (القناص)"، يقول بينما يُظهر بندقية بمنظار في القسم الخلفي من هذا المحل القديم للأغذية الذي هو الآن مقر عسكري. "لكن هنا لا توجد فرصة ثانية ولا حيوات دائمة"، يقول محمود، الأكثر حصافة من بين  الأربعة وذو السلوك الأكثر رشداً.
يفضل محمود عدم الكلام بشكل مفرط عن الحرب وعن الجنود الذين قتلهم في المعركة. "لا أعلم إن كنتُ قَتَلتُ أم لا... لا يهمني أيضاً. أنا أعلم أنني أطلق عليهم النار وهم يطلقون علي. الله هو من يوجه الرصاصات"، يؤكد مطئطئاً رأسه، خجلان. هذا الرقيب انضم إلى الجيش الحر بعد أن تعرض لضرب وحشي من قبل شبيحة نظام الأسـد عندما أوقفوه في نقطة تفتيش. "طلبوا مني هويتي وبما أنني من بلدة تحت سيطرة الجيش السوري الحر فقد ضربوني حتى تركوني بلا وعي ثم ليسرقوا مني كل ما كان في جيوبي"، كما يقول.
حيوات مبتورة
خيط خجول من الدم يتلوى خلال الطين لينتهي مختلطاً بالمياه العكرة للجدول. جندي من الجيش السوري الحر ينظر إلى الجثة. يجثو وبحركة شبه أبوية يغلق له عينيه براحة كفه. ينتظر برهة، يتنفس بعمق بينما يعود للنظر إليه. يحفظ ملامحه الطفولية. تتميز بقعة حمراء   وسوداء في جبهته. المكان الذي أنهت رصاصة حياته فيه.
يسحب مدية مهلهلة من سترته العسكرية. هي نفسها التي يستخدمها لقطع الخبز، والآن تنفع في قطع الحبال التي تقيد يدي هذا الطفل ذي الاثني عشر عاماً إلى ظهره. يضع له يديه على صدره وينظر إلى رفاقه الذين يرفعون جثة الفتى لوضعها على النقالة. يسير المتطوعون بجثة الفتى الهامدة فيما مجموعة أخرى من الرجال تحضر مع الثائر الذي يحتفظ بمديته في سترته العسكرية. إلى جانبهم، حيث كان يرقد الطفل، تنتظر خمس جثث أخرى. كلهم أُعدِمُوا بطلقة في الرأس.
حصدت الحرب السورية أكثر من 250000 ضحية. في آب|أغسطس، قدَّر تقرير للأمم المتحدة عدد الأطفال القتلى خلال الصراع بـ 8803، منهم 2165 تقل أعمارهم عن عشرة أعوام. إنه تعداد لا يتوقف عن التزايد ويبقى قاصراً دائماً، إذ، كما يعترف واضعو الدراسة، ثمة حالات لم يمكن ممكناً توثيقها. المأساة السورية تتواصل بدون أن يجرؤ أحد على وضع حد لهذه الخسارة في الأرواح البريئة.







http://elpais.com/elpais/2014/11/20/planeta_futuro/1416499724_787057.html