Monday 16 March 2015

الأسـد يكرهنا نحن الأطباء لأننا نساعد الناس





الأسـد يكرهنا نحن الأطباء لأننا نساعد الناس

ليلى محرم ودانييل ريباس- صحيفة الباييس الإسبانية

في عيادة نفسية بعمَّان، يحاول الطبيب أن يداوي صدمات الأطفال السوريين. غايته أن يدفنوا في ذاكراتهم الألم الذي سببه النظام.


عمَّان (الأردن)- الدكتور شفيق عامر يقرأ كلمات أغنية: "تحلق الطيور فوق أسقف بيوتنا، عادت أيام الربيع". إنها مكتوبة على جدار مركزه للعلاج النفسي للأطفال في عمَّان، الأردن. البيت صار صامتاً الآن والحديقة خالية، لأن الأطفال ذهبوا إلى المدرسة.

إلى ما قبل لحظة، كان في الصالة حلقة من اللاجئين السوريين تتراوح أعمارهم بين ستة وأحد عشر عاماً. في الوسط، فتاة تركب بصعوبة أحجية puzzle بتسعة مكعبات من الخشب. "نقوم بهذه اللعبة لتحسين التركيز عندما يكون لديهم كرب ما بعد الصدمة"، يبين عامر، ويضيف: "الغالبية يعانون من الاكتئاب، والكوابيس، ورهاب الخلاء، وأمراض  نفسية أخرى".

الأطفال في مركز المالكي-سلام للدكتور شفيق عامر كانوا قد عانوا قصف البراميل المتفجرة من قِبل نظام بشار الأســد، وناموا تساورهم الشكوك عن هجوم في منتصف الليل تقوم به قوات الأمن، وشاهدوا، ربما للمرة الأخيرة، دعامات منازلهم مهدمة. يمر بهذا المنزل في عمَّان كل أسبوع حوالي ستين فتى يتلقون مساعدة نفسية من جميعة سلام الثقافية  لكي يعودوا ويصبحوا أطفالاً.

في صالة العيادة، أثناء الجلسة، كلهم كانوا سوريين في بلد أجنبي. الدكتور عامر أيضاً كان عليه أن يلجأ إلى المنفى عندما بدأت الحرب قبل حوالي أربعة أعوام، صراع خلف أكثر من مائتي ألف قتيل وأجبر ما يقرب من ثلاثة ملايين شخص على الفرار إلى بلدان أخرى، حسب وكالة الأمم المتحدة للاجئين. كان عامر يعيش في دمشق مع زوجته وولديه. وكان يعمل في مستشفى. "هناك شاهدتُ جرحى الأيام الأولى للثورة. وأدنتُ فظائع القمع مرسلاً الصور إلى وسائل الإعلام"، كما يروي. ويوضح قائلاً: "النظام كان سيصل إليَّ وهكذا خرجتُ إلى لبنان. بشار الأسـد يكره الأطباء، لأننا نساعد الناس. لقد قتل أكثر من 2500 منهم".

في البلد الجار اختبأ في شقة حيث كان يعيش متخفياً، والأضواء مطفأة وفي شبه صمت لأنه كان يشتبه بأن حزب الله، الميليشيا الشيعية اللبنانية، كان يبحث عنه لتسليمه إلى الحكومة السورية. بعد ذلك انتقل إلى تركيا ومنها إلى مصر قبل أن يستقر في عمَّان قبل اثني عشر شهراً.

عاش عامر في أربعة بلدان خلال أربعة أعوام ولا يستطيع العودة إلى بلده؛ وعلى الرغم من ذلك، يبتسم ويلعب مع الصغار كما لو أنه ليس هناك شيء آخر. كما لو أنه لا يوجد شيء قادر على إيذاء طفل، أو أحد يهدد فقاعة الحنان الموجودة في هذا المركز للعلاج النفسي.

يواجه الطبيب، البالغ ثلاثة وأربعين عاماً، في مكتبه في الأردن الهول القادم من سوريا. فيه يستقبل الأطفال ويستمع إلى قصصهم من خلال شهادات والديهم. "كثيرون لديهم رعب من الغرباء ولا يريدون الحديث عن ألمهم علناً"، كما يقول. الكبار، في حالات كثيرة،  يخرجون من تلك الصالة بموعد مع عامر في المساء. الحرب تشغل كل فضاءات العائلات: فهي في بيوتهم، في عمَّان الآن، وفي ذكرى التي تركوها وراءهم والتي لا يعلمون إن كانت موجودة؛ في أقاربهم الذين ما زالوا يعيشون في سـوريا وفي الذين ماتوا.

يكتب عامر يومياً أفكار مرضاه. ابتداء من تلك اللحظة سوف تستغرق المعالجة ثلاثة شهور، أربع ساعات كل يوم. إذا سار كل شيء على ما يرام، سيراجع عامر ملاحظات اليوم الأول وسيعلم ما إذا كانت جروحهم قد اندملت.

بين الحالات الأكثر صعوبة التي يواجهها حالة سدرة، الطفلة ذات الأعوام التسعة. تكاد لا تنام لأن الكوابيس تراودها كل ليلة. ترى والدها. المرة الأخيرة التي كانت معه كانت قبل عامين، عندما كان يعيش مع أسرته في حِمص. في ذلك اليوم، دخلت الشرطة إلى البيت. تتذكر سدرة الضرب (العلقة) الذي تلقته والدتها وهي نفسها حتى تدخل الوالد للدفاع عنهم. فطرحته أرضاً ضربة قوية بأخمص سلاح. وشاهدت الطفلة كيف جروه إلى الشارع. أطلت من النافذة وتابعته بنظراتها فيما كانت الشرطة تصفه مع عشرات من الرجال بمواجهة الجدار.

شاهدت سدرة كيف أطلقوا النار على والدها. سقط جسده على الأرض وتدفق الدم من جنبه. بعد هذا، فرت أسرتها وبقيت أسابيع في مخيم الزعتري للاجئين في الأردن إلى أن استأجروا شقة في عمَّان. في كوابيسها، تلتقي سدرة بوالدها حياً.

معالجة الرعب

في الأيام الأولى في المركز، لا يفعل الأطفال شيئاً غير اللعب والرسم. يأخذون دمى الحيوانات المحشوة والدمى الأخرى التي يريدونها ويرسمون بدون أي إرشاد. فالطبيب يريد أن يرى كيف تكون علاقاتهم في بيئة غريبة، بعيداً عن الأمان وسط أسرهم. هو يراقب ويسجل ملاحظاته. مشهد الحلقة في الصالة، مع الطفلة التي تركز على الأحجية puzzle ذات المكعبات التسعة، يحدث في الشهر الثاني.

يشغِّل عامر موسيقا مروِّحة عن النفس ويلاحظ. الطفلة في داخل الحلقة تفك رموز الصورة: كلب بني ذو طوق أحمر. "بهذه التمارين نطالبهم بتصفية عقولهم من الذكريات السلبية وبأن يتعلموا التركيز"، يبيِّن الدكتور. أخيراً هم في الشهر الثالث ويراجع عامر في دفتر ملاحظاته تطور حالات مرضاه. صنع الأطفال مسرحاً، مارسوا اليوغا، رسموا، غنوا، ولعبوا لكي يواجهوا صدماتهم. "بشكل عام، لا تعود الصور المؤلمة والكوابيس إلى مراودتهم"، يوضح عامر. الماضي تخف وطأته. لكن لديه "حالات شديدة الخطورة تحتاج إلى وقت أطول بكثير: يوجد طفل ما زال يأتي كل أسبوع لأنه كان حاول الانتحار ثلاث مرات"، يوضح الطبيب.

جدران الغرفة ملساء وذات لون كريمي. الأرض مغطاة بالسجاد لكي يمشي الأطفال حافين. في الشرفة يوجد صندوق من الرمل للعب. الفضاء كله آمن. رسم واحد فقط يقطع الاطراد اللوني. إنها صور ظلية لمرضى سابقين. في الجدارية، يمسكون بأيدي بعضهم البعض وآخر واحد في الصف يمسك براية خضراء وبيضاء وسوداء، علم الثورة السورية.

والدة سدرة، المريضة ذات الأعوام التسعة، تريد أن تغادر إلى سـوريا. هي لا تستطيع دفع الإيجار والمالك سوف يخرجها من المنزل. إنها وحيدة. قُتِلَ زوجُها ولها شقيق جندي في المقاومة. "سوف يموتون. أطلب منهم: من فضلكم لا تغادروا الأردن"، يشرح الدكتور. لكن مع الشكوك حول مساعدات برنامج الغذاء العالمي، لا يرى كثير من السوريين خياراً أخر. "يفضلون أن تسقط عليهم قنبلة في سـوريا على الموت جوعاً هاهنا"، يقول عامر. ويختتم كلامه:"لدي قائمة من عشرين مريضاً أتصل بهم للحضور، ولكنهم رحلوا".

"آمل أن تعود أيام الربيع سريعاً ونتمكن جميعاً من الذهاب إلى بيوتنا"، يتنهد عامر، ويتذكر الأغنية الطفولية المكتوبة في صالة الموسيقا في العيادة.









http://elpais.com/elpais/2015/03/06/planeta_futuro/1425646827_195560.html#bloque_comentarios