Saturday 4 July 2015

ذكرى يومٍ دامٍ في حَلَب




ذكرى يومٍ دامٍ في حَلَب

أنتونيو بامبلييغا - صحيفة صوت غاليثيا الإسبانية


"كم من الألم شاهدتْ كاميراتُنا"؟ سألني المصور الإيطالي فابيو بوتشياريلي بينما كان يُجهِزُ على سيجارة في مدخل مستشفى دار الشفاء في مدينة حلب. بقيتُ صامتاً. ناظراً إليه. لم أكن أعلم كيف أجيبه. نظرتُ إلى الأرض المنجدة بالغبار والأنقاض وبقايا الدماء. راجعتُ بعض المقاطع التي كنت سجلتها، وبكيت. بكيتُ كثيراً ومازلت أبكي متذكراً ذلك اليوم.
كنت في الثلاثين من عمري. وقد غطيتُ نزاعات مسلحة في أماكن مختلفة كأفغانستان أو هاييتي. لكن إلى أن وصلتُ إلى سـوريا لم أكن شاهدت قط حرباً بكل معنى الكلمة. لم أشاهد قط مثل هذه القسوة -وآمل ألا أعود لرؤيتها أبداً. لم أشاهد قط الكثير والكثير من المدنيين المقتولين بهذه الوحشية. حتى اليوم، لا أعلم جيداً بم أجيب على السؤال الذي وجهه لي فابيو الطيب ذلك الرابع من تشرين الأول|أكتوبر 2012.
مر عامان ونصف العام على ذلك اليوم، لكنني مازلت أتذكره كما لو كان الأمس. لن يمكنني نسيانه أبداً. لا أنا ولا أي واحد من رفاقي. ذلك اليوم سيرافقني ما تبقى من حياتي.    إنه محفور في ذاكرتي. ما زلت أشم رائحة الدم. ما زلت أرى بوضوح كيف كانت أحشاء المستشفى تتقيأ ليترات وليترات من الدماء لأنها ما عادت قادرة على ابتلاع المزيد. أتذكر الأقارب الذين مزقهم الألم. القبلات للجثث. الضربات على الصدور. الركض بالأجساد الهامدة بين الذراعين بحثاً عن طبيب يُعنى، في الوقت نفسه، بمرضى آخرين كثر. أتذكر اليأس. الغضب. الألم. الرغبة في رمي الكاميرا إلى القمامة وتقديم نفسي لمساعدة الأطباء. "عملك هو التصوير وتوثيق هذا. وها أنت تقوم بالتقاط الصور فدعنا نعمل بسلام"، أجابني أحد الأطباء في المشفى عندما عرضنا عليه المساعدة. أشباح ذلك اليوم ما زالت تزورني كل ليلة.

في ذلك الرابع من تشرين الأول| أكتوبر كان رفع النظر عن شاشة الكاميرا للبحث عن صورة جديدة صفعةً من الواقع. أطفال موتى أو ممزقون بسبب الشظايا قوضوا قسم الطوارىء. أطفال يشخصون بأبصارهم إليك. عيون  جامدة. عيون بلا حياة. عيون قام قناص ابن عاهرة بإطفاء بريقها. عويل يثقب طبلة الأذن. هل من الممكن العمل والدموع في العيون؟ نعم، بالطبع هذا ممكن... أشهد بذلك. قد تتلطخ الحقيقة بالدموع لكنها لا تحرفها. في ذلك اليوم انتهيت من العمل. وعدت إلى البكاء. بالكاد استطعت النوم. تذكرت كل ثانية أمضيتها داخل ذلك المستشفى التعس.
الحرب، عامان ونصف بعد ذلك الرابع من تشرين الأول|أكتوبر، تتواصل في سـوريا. النزاع، أو المذبحة -كما قد تفضلون تسمية ما يجري هناك- حصد أكثر من 250000 ضحية منهم ما يقرب من تسعة آلاف طفل -ومن هؤلاء 2165 أعمارهم تقل عن عشر سنوات-.

تؤلمني سـوريا. يؤلمني أطفالها. يؤلمنونني كما لو أنهم إخوتي الصغار أو أبنائي أنفسهم. أبكي عندما أتذكرهم. أبكي عندما أطالع الصور التي ترافق هذا المقال. خلال هذه الأعوام الثلاثة التي مضت عليًّ وأنا أغطي الحرب في سـوريا رأيتُ مئات الأطفال الموتى. رأيتُ آباء وأمهات وأجداداً وجدات وأشقاء وشقيقات يبكون على أجسادهم الهامدة. رأيتُ كيف يحاول الأشقاء، يائسين، إيقاظهم من نومهم الأبدي.
مضى وقت منذ أن تركتُ عد الأطفال الموتي الذين شاهدتهم في هذه الحرب اللعينة. لكن هذا لا يعني أنهم لا يواصلون قتلهم محصنين من العقاب. لكنني قررتُ الآن التركيز على الذين يتحملون. على الذين يبقون على قيد الحياة. على الذين ما زالوا يضحكون وعلى الذين ينتزعون منك الابتسامة. الأطفال السوريون أعادوا إليَّ الحياة في مناسبات عديدة. في مناسبات كنتُ فيها في مزاج سيء... وهكذا فإن من المناسب أن أعيد إليهم كل ذلك الامتنان.
ولهذا فأي طريقة أفضل لانتزاع ابتسامة منهم من أن نحمل لهم الدمى والكتب المدرسية (بالانكليزية أو العربية) ودفاتر التلوين وأقلام التلوين والشموع والكرات... وأي شيء آخر يساعدهم على نسيان الواقع الذي يواجهونه كل يوم. من أجل ذلك أطلقتُ حملة متواضعة للمساعدة في جمع كل المواد المدرسية وحملها إليهم. حان الوقت لننقذ أطفال سـوريا الضائعين ولنظهر لهم أن ألمهم هو ألمنا أيضاً.







https://unmundoenguerra.wordpress.com/2015/05/11/el-poder-de-la-prensa/#comments