Wednesday 11 May 2016

حَلَب: الهدف، قتل الطبيب




حَلَب: الهدف، قتل الطبيب


بقي ستون طبيباً في كبرى المدن السورية. هم هدف ذو أولوية للقصف. "في مقابل كل طبيب يموت، هناك 200 مدني أقل"، يقولون في سـوريا.


ناتشو كاريتيرو- موقع: الاسبانيول


لا يعلم زملاء الدكتور محمد وسيم معاز ما إذا كان الصاروخ الذي أنهى حياته روسياً أو سـورياً. هما الطيرانان الوحيدان اللذان يقصفان، يوماً بعد يوم، مدينة حلب، في شمال سـوريا. واحد من الأهداف ذات الأولوية للهجمات هي المستشفيات. الأطباء هم صيد ثمين. "كل طبيب ميت يعني مائتي مدني أقل"، يقولون في سـوريا. معادلة مخيفة يطبقها نظام بشار الأسـد على المناطق الثائرة مثل حلب منذ أكثر من عامين.
في نهاية الأسبوع الماضي عادوا لتحقيقها: قَتَلَ قصفٌ على مستشفى القدس للأطفال الدكتور وسيم معاز، وطبيب أسنان، وثلاثة ممرضين، وعشرين مريضاً. أربعة وعشرون آخرون من الجيران القاطنين في الأبنية القريبة قضوا أيضاً عندما تهاوت بيوتهم عليهم. جريمة أخرى في سلسلة لا تنتهي من جرائم الحرب في سـوريا.
الدكتور محمد وسيم معاز كان طبيب الأطفال الوحيد الذي بقي في حلب. الأخيرون في كل اختصاص من الاختصاصات يتساقطون في المدينة المشؤومة على الأطباء. قبل ثلاثة شهور قتلت قنبلة أخرى آخر اختصاصي في القلب والأوعية الدموية في المدينة. في أواخر 2013 دمرت قنابل البراميل وحدة الأطفال حديثي الولادة الوحيدة في المنطقة، منذ ذلك الحين يوضع الأطفال الخدج (الجميع تقريباً في مدينة حيث تخضع الحوامل لضغط بالغ الشدة)، في حاضنات في أقبية الأبنية.
"إنها استراتيجة. أمر متعمَّد ومخطط له". توضح ميريام اليا، المنسقة الطبية السابقة لأقسام الطوارىء في أطباء بلا حدود-سـوريا. كانت ميريام في حلب منذ 2012 حتى 2014، العام الذي جعلت فيه عمليات الخطف التي يقوم بها تنظيم الدولة الإسلامية من حضور الأجانب في مناطق القتال أمراً مستحيلاً. "المستشفيات، والمراكز الطبية، وسيارات الإسعاف، وفرق الإنقاذ، كلها أهداف ذات أولوية. الأطباء، والممرضون، وسائقو سيارات الإسعاف، والخوذات البيضاء (مجموعات من المتطوعين المكرَّسين لإنقاذ المصابين وسحب الجثث بعد القصف) هم الضحايا المفضلون"، كما توضح ميريام.
لا يخفي النظام نواياه. فالتقنية المستخدمة على الدوام تقريباً تتمثل في إلقاء القنبلة الأولى وانتظار أن تصل فرق الطوارىء. حالما يصبحون على الأرض وفيما يقومون بمساعدة المصابين، يلقون قنابل جديدة للقضاء عليهم. "الأطباء هدف منذ تظاهرات الربيع العربي الأولى عام 2011 ضد النظام"، تقول ميريام. "آنذاك، كان الأطباء الذين يعنون بالمصابين عرضة للهجوم".
أمضت منظمة العفو الدولية شهوراً وهي تندد بهذه الاستراتيجية. "سـوريا وروسيا تهاجمان عمداً المراكز الطبية في ما يمثل انتهاكاً فاضحاً للقوانين الإنسانية الدولية. هجماتهم تبدو أنها تشكل جزأً من استراتيجية عسكرية"، تقول تيرانا حسان، مديرة برنامج الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية.
فقط في الشهر ونصف الشهر الأولين من العام 2016، وحسب معلومات أطباء بلا حدود، حدثت عشر عمليات قصف على سبعة مستشفيات في سـوريا. في عام 2015، كان هناك 106 هجمات جوية طالت 63 مركزاً طبياً. في سوريا، في المتوسط، يُقصَفُ مستشفى في الأسبوع. تَرْك السكان المدنيين بدون إمكانية الحصول على المساعدة والعلاج هو شكل آخر من أشكال قتل المدنيين.
تقبُّل أنك ستموت
في الصور التي التقطتها كاميرا المراقبة الأمنية في القصف على مستشفى القدس للأطفال يمكن أن يُرى كيف مر الدكتور وسيم معاز عبر أحد الممرات، وبعد ثوان من اختفائه تماماً، يتطاير كل شيء متفجراً في الهواء. هنالك انتهى كل شيء لطبيب اختار عدم الخروج من وطنه الذي تسحقه الحرب. "تعرفتُ إلى الدكتور معاز في عام 2013. كان مهنياً صادقاً وملتزماً. مغادرة سـوريا لم تكن تدخل في خططه". يقول أيتور ثابالغوخياثكوا، المنسق الطبي السابق لأطباء بلا حدود-حلب. "أعتقد أن الدكتور وسيم معاز، كالعديد من المهنيين الصحيين السوريين، كان قد تقبَّل أنه لن يعيش ليرى نهاية الحرب".
يقدر أنه بقي في حلب حوالي ستون طبيباً. كثيرون منهم هم أطباء مقيمون وحتى طلاب طب كان عليهم أن يترأسوا مراكز طبية للعناية بسيل المصابين والمرضى. ستون طبيباُ من أجل العناية بسكان مدينة في حالة حرب.
أما الباقون فإما أنهم قضوا أو أنهم فروا من سـوريا. ولقد التقى العاملون في منظمة أطباء بلا حدود بزملاء من الأطباء السوريين في دروب اللاجئين. "حدث لنا –تقول ميريام اليا- أن التقينا بأطباء كنا قد عملنا معهم في حلب في مخيمات اللاجئين في البلقان أو لسبوس".
أولئك الذين بقوا في المدينة يعيشون في مستشفياتهم. هم هدف ذو أولوية للقنابل والقناصة ولهذا يتجنبون المشي في الشارع أو البقاء في المنزل. يذهبون لزيارة أسرهم مرة أو مرتين في الشهر وما بقي من الوقت يبقون في داخل المستشفيات. إذا كان من الممكن، في هذه المرحلة، تسميتها بالمستشفيات.
مستشفيات متنقلة
عامان من القصف دون هوادة حولا إلى أنقاض مستشفيات ما كانت المدينة الأكثر سكاناً في سـوريا وعاصمتها المالية. والطبية أيضاً: المفارقة هي أن كلية الطب في حلب والمهنيين الذين تخرجوا فيها كانوا هم الأكثر شهرة في البلد وفي قسم معتَبَر من الشرق الأوسط. للأطباء السوريين سمعة ممتازة في المجتمع الطبي الدولي.
"ما يحدث عندما يقصفون مستشفى ما هو أن الناجين يجمعون الأدوات والمواد التي لم تدمر ويأخذونها سريعاً إلى مكان آخر. حرفياً: يجمعون ويخرجون راكضين"، تشرح ميريام. وهكذا، تحولت مستشفيات حلب إلى نوع من مصحة متنقلة تستخدم فيها الأدوات التي نجت من الهجمات وحيث يُعنى بالمرضى في الطبقات السفلى وأقبية الأبنية التي بقيت قائمة. مواقع هذه المصحات، كما هو واضح، تحاول البقاء خفية، لكي لا تكون هدفاً لعمليات قصف جديدة. أطباء حلب يعملون بعين على المريض وأخرى على السماء.
العزاء الذي بقي لشجعان مثل الراحل محمد وسيم معاز هو أن الأطباء، في المجتمعات السورية، يُعدون أبطالاً. يعنون بالمصابين دون تمييز بين الأطراف. كثيرون منهم أنقذوا حياة مقاتلين في تنظيم الدولة الإسلامية. وذلك رغم أن الأطراف المختلفة، في بعض الأحيان، يقومون بخطفهم ويجبرونهم على العناية برفاقهم فقط. أحياناً يتعرضون للقتل إذا فاجأوهم وهم يساعدون عدواً.
قبل يومين ألقت رئيسة أطباء بلا حدود، جوان ليو، خطاباً في الأمم المتحدة ذكَّرَت فيه البلدان الحاضرة بما هو واضح: أنهم هم أنفسهم، بمن فيهم الذين يقتلون الأطباء اليوم في حلب، وقعوا ليس قبل وقت طويل على قرار بالإجماع من أجل حماية المستشفيات والكوادر الطبية في النزاعات المسلحة. قرار تم تجاهله بقسوة يمكن أن تخلي الحرب السورية من الأطباء.





http://www.elespanol.com/reportajes/20160506/122737996_0.html

Monday 2 May 2016

آخر أطباء الأطفال في حَلَب




آخر أطباء الأطفال في حَلَب

مارتا ريبيرا دي لاكروث**- موقع الاسبانيول


كان اسمه محمد وسـيم معّاز وكان آخر طبيب أطفال بقي في حلب. بلغ ستة وثلاثين عاماً من العمر ومات قبل بضعة أيام إثر قصف على مستشفى -تدعمه- أطباء بلا حدود كان يواجه فيه كل يوم ألم الأطفال. أمضى وسيم شهوراً يكافح وحيداً تقريباً ويلات الحرب، في عيادة متزعزعة، بموارد قليلة وكادر أقل، هرب منها أطباء أطفال آخرون في رغبة مشروعة للنجاة من موت تتأكد إمكانيته باطراد. لم يرد وسيم معاز الذهاب، وترك أسرته ترحل مع وعد مبهم بالالتقاء بهم في وقت لاحق.
بينما أكتب هذه السطور توجد أمامي صورة الدكتور وسـيم معالجاً واحداً من الصغار الذين أنقذ حياتهم أو واساهم في الألم. لا أعلم إذا كان مدركاُ لحضور الكاميرا، لأن عينيه مسمَّرتان في الطفل الجريح الذي يعنى به والذي يبدو أنه يلاطفه بغية تخفيف ألمه، أو ربما تخفيف كربه فقط. نظرة الطبيب محمَّلَة بكثير من الشفقة التي يبدو مستحيلاً أن تأتي ممن يواجه يومياً وابلاً لا يطاق من الفظاعة فيما تتفجر القنابل على بعد خطوات منه ويتضاعف عدد المصابين وعدد الموتى. بينما يدخل إلى مستشفى بدون وسائل أجساد محتضرة، وكبار يصرخون باكين على أولادهم، وأبناء يصرخون منادين آباءهم، كان محمد وسيم ينظر إلى الطفل، الذي ربما لم يكن يستطيع علاجه، كما لو أنه لم يكن متعوداُ على رؤية أطفال ممزقي الأوصال بفعل الشظايا. كما لو أن ذلك الطفل الصغير الخائف والمتألم كان الطفل الوحيد على هذه الأرض.
من الصعب أن نفهم أن يكون رجل أمضى شهوراً وهو يعيش في التعبير الأنقى عن الهول قادراً على الاحتفاظ في داخله بالقدرة على التعاطف والرقة. أفترض أنه لهذا بقي في سـوريا فيما خرج آخرون من البلد. لا أعلم ما إذا كان الدكتور وسيم أفضل طبيب أطفال في العالم، أو الطبيب الأكثر حكمة، أو الجراح الأكثر كفاءة، لكنني متأكدة فعلاً بأنه ربما كان الرجل الأكثر طيبة الذي بقي في حلب. الآن وقد مات لم يعد هناك أطباء أطفال في ذلك المستشفى، لكنني لا أتساءل من سيخيط جراح الأطفال بل عما إذا كان سيوجد من هو قادر على مواساتهم عندما يبكون. على النظر إليهم بحب دون غضب كما كان ينظر محمد وسـيم إلى مرضاه الصغار. فليرقد بسلام هو وكل أولئك الذين تركوا الحياة من أجل الكفاح ضد القسوة والظلم والموت. ضد ألم طفل. فليباركك ربك يا دكتور وسـيم.



** كاتبة وصحفية ونائبة في مجلس النواب الإسباني.





http://www.elespanol.com/opinion/20160501/121617841_13.html#