Thursday 30 October 2014

روحي منهَكة




روحي منهَكة

نوريا بيرّو-  صحيفة الباييس الإسبانية


إنها السادسة صباحاً والفجر يطلع في الفايضة 15، إحدى مستوطنات اللاجئين السوريين العديدة في شرق لبنان. تحت ضوء الصباح الباكر ينتصب بناء حيث لم يكن ثمة شيء بالأمس: الهيكل المزعزَع لخيمة جديدة ستؤوي قريباً أسرة جديدة من بين أكثر من أربعمائة شخص لجأوا إلى هنا.
انقضى أكثر من شهرين منذ زيارتي الأولى لهذا المكان، وعند عودتي، لاحظتُ كم كبر وتغير. حتى في الأسبوعين اللذين أمضيهما هنا ما زلت ألاحظ تغيره يومياً. في كل شهر، يعبر آلاف الأشخاص الحدود السورية هاربين.
اليوم تصل إلى هنا حافلة قادمة من سـوريا. الأوائل الذين لمحوا كيف تقترب عبر الطريق أشاعوا النبأ وسرعان ما تحلق الناس من حولها. الترقب والسرور بتجدد اللقاء يختلطان بالقلق خشية عدم الالتقاء بمن ينتظرونهم.
بين الهاربين، ثمة فكرة: العودة إلى سـوريا يوماً ما. لكن على هذه الفكرة يفرض الواقع نفسه، واقع الخوف. "إذا عدت إلى سـوريا سوف يقتلونني لأني ابني مقاتل"، يقول خالد فيما نشرب الشاي معاً. ليس ضرورياً تحديد في أي فصيل، لا فرق، فالخوف من الانتقام يعم جميع الهاربين. لكن، حتى في هذه الظروف، يعود البعض. الوضع صعب، المساعدة ليست كافية وكلما مر الوقت، كلما نفدت الموارد التي هربوا بها وأصبحت أكثر محدودية قدرتنا على المساندة.
بجانب هيكل الخيمة الجديدة، تصف زينب كَرْبَ من يبدأ بالبقاء من دون بدائل. "حالتي سيئة جداً؛ أنا هنا بدون زوجي، الذي مضى وقت من غير أن تصلني أخباره، وعليَّ أن أعيل أولادي الخمسة. لدي مشكلات في توفير الغذاء لهم. لا أعلم كم من الوقت سيمكنني التحمل. روحي منهكَة". العودة إلى سـوريا، التي فرت منها والتي علمت قبل بضعة أسابيع فقط أن ابن عمها قد مات فيها، تبدو خياراً حيال الأوضاع الهشة التي تعيشها في لبنان.
أودِّع زينب بـ "إلى اللقاء غداً"، عالمةً أنها ربما لن تكون هنا يوماً ما. أتساءل عما ينتظرها في الجانب الآخر من الحدود، وعما إذا كانت ستستطيع الالتقاء من جديد بزوجها والعودة إلى بيتها. أتساءل أيضاً كم من الأطفال، وإلى متى، سيستمرون في رسم خيام على الجدار عندما يريدون أن يعبِّروا عن صورة منازلهم.





http://elpais.com/elpais/2014/10/07/planeta_futuro/1412691854_655341.html

Monday 27 October 2014

أطفال، طائرات ومستقبل




أطفال، طائرات ومستقبل

نوريا بيرّو**- صحيفة الباييس الإسبانية


زحلة (لبنان) -  آية عمرها ست سنوات وهي خجولة جداً. عندما تكبر تريد أن تتزوج وأن تعمل مدرِّسة. أتساءل كيف ستفعل ذلك إذا كانت لم تذهب إلى المدرسة قط. كانت صغيرة جداً عندما اندلعت الحرب في بلدها، سـوريا، وتعيش حالياً في مستوطنة للاجئين في غرب لبنان. والدتها، فطومة، تروي لنا أن واحداً فقط من أولادها الخمسة وطئت قدماه فصلاً مدرسياً: "عندما بدأت عمليات القصف، محمد فقط، الذي بلغ الآن تسعة أعوام، كان يرتاد المدرسة. في كل يوم، عندما كان يذهب إلى المدرسة، كانت تأتي الطائرات وهذا ما سبب له خوفا هائلاً. حتى الآن ما زال غير قادر على  العودة إلى المدرسة نتيجة هذا الخوف".
هذا التوتر العصبي من الطائرات صار أمراً ثابتاً. في مناسبة أخرى، خديجة، المشارِكة في واحد من برامج منظمة "العمل ضد الجوع"، تطلب منا أن نصور أولادها وأولاد أخوتها، وهم، مسرورين، يتموضعون على أحد المقاعد. تحلِّق طائرة مروحية، وكما لو أن تياراً كهربائياً جرى في الصف: هم يختلجون والتوتر منعكس في وجوههم. تمر بضع ثوان حتى يستجمعوا أنفسهم، لكنهم لا يستعيدون ابتسامتهم المزهوة من أجل الصورة.
في كل يوم، تحلق طائرات مروحية، وحتى بعض المقاتلة، فوق المنطقة. وفي كل مرة يحدث ذلك، يجذبني واحد من الصغار من يدي لتنبيهي. يريدون أن أعلم أنه من هناك تأتي القذائف التي انحفرت في ذاكرتهم. بمساعدة ورد، الزميل من "العمل ضد الجوع" الذي يترجم لي، أحضر مذهولة محادثة بين أطفال وطفلات في العاشرة من أعمارهم يصفون فيها عمليات القصف، معطين تفاصيل لأربعة أنواع محددة، على الأقل، من القنابل. ليس ذلك صنف  المعرفة الذي يقرنه المرء أو يتمناه لذلك العمر.
أيضاً في كل يوم، حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، يختفي كثيرون داخل خيمهم ويخرجون في غضون بضع دقائق بوجوه نظيفة وشعور مسرَّحة. "إلى  المدرسة؟"، أسال بعربيتي المقلقلة والمكتسبة حديثاً. ويجيبون بابتسامة: "نعم، إلى  المدرسة". في وقت قصير تصل الحافلة وينبه بوقها أكثر من مائتي طالب من المستوطنه إلى أنها صارت هنا. إنها حافلة صفراء، كالتي نراها في الأفلام الأمريكية، ووجودها لا يفتأ يصدمني في هذا السياق.
ليست مدرسة مألوفة، وإنما برنامج أطلقته الأمم المتحدة من أجل الحفاظ على تعليم معين، لكنه لا يتبع المسار التعليمي الذي يجب أن يسلكوه. يتعلمون الانكليزية، يحسِّنون العربية، يغنون، يلعبون.... هناك فرصة أيضا للخروج من المستوطنة واستعادة نوع من الوضع الطبيعي. بفخر يُرونني كتبهم وينشدون الأغاني التي تعلموها.
أطفال كثيرون في بلدنا بدأوا للتو عامهم الدراسي. آخرون كثيرون في العالم ليست لديهم هذه الإمكانية، سبعة وخمسون مليوناً بحسب الأمم المتحدة. الذين يعيشون في مستوطنات اللاجئين السوريين يشكلون جزأ من هؤلاء الـ 42 بالمائة من السبعة والخمسين مليوناً الذين لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة جراء نزاع ما. حتى إذا كانت المسألة ستحل في المدى القصير، فإن الفجوة المفتوحة في تعليمهم ستؤثر جدياً على فرصهم المستقبلية.
ليس الأطفال خاصةً هم المتأثرين بهذا الصدد. لقد تعرّفت في هذه الأسابيع أيضاً على شبان كان عليهم أن يتركوا دراساتهم الجامعية وهم يستمرون على قيد الحياة حالياً بالعمل عندما يستطيعون كعمال مياومين في الريف. وصل أحمد أولاً مع شقيقه إلى جنوب لبنان ويقيمون الآن هناك مع زوجاتهم، شقيقاتهم، أولادهن وأولاد أشقائهم. في المجمل، سبعة عشر فرداً من عائلته يتكدسون في كوخ بائس داخل المزرعة التي يعمل فيها. في حلب كان طالبَ حقوق وبعد أربعة أعوام تقريباً من الحرب والهروب، مازال يتساءل ما إذا كان سيستطيع العودة إلى الكلية يوماً ما.
لكن ثمة أيضاً فسحة للأمل. أحد الأصدقاء من إحدى مستوطنات اللاجئين يقدم إليَّ في أحد الأيام شاباً ذا مظهر جدي ورسمي. يريدون أن يخبروني بأنه أنهى المدرسة الثانوية وأنه سيذهب إلى الجامعة. يأمل بدراسة البيولوجيا وبأن يصبح تقنياً في مخبر. إنه واع بأن ذلك سيكلفه جهداً ومالاً، لكنه يخطط للعمل من أجل تغطية المصاريف. "في سـوريا؟"، أسأله. وهو يجيب "إن شاء الله". لعل وعسى.



** فنية اتصالات في منظمة (العمل ضد الجوع).




http://elpais.com/elpais/2014/10/09/planeta_futuro/1412845654_712483.html