Tuesday 27 March 2012

اللعبة السورية الكبيرة


اللعبة السورية الكبيرة
اغناثيو الباريث اوسوريو** – صحيفة ال باييس الاسبانية

بينما يحاول بشار الأسـد إخضاع الانتفاضة بالدم والنار ويهاجم السكان المدنيين، تخوض  العربية السعودية، وإيران، و تركيا  منافسةُ من أجل تحقيق مكاسب في الشرق الأدنى الجديد

دخلت الانتفاضة السورية في طريق مسدود. فعندما يوشك العام الأول من الثورة الشعبية على الاكتمال، قرر النظام المقامرة بكل شيء وتوظيف مدفعيته الثقيلة من أجل محاولة سحق الاحتجاجات التي يوجد معقلها في مدينة حمص. فلا هدف له إلا إخضاع الانتفاضة بطريقة حاسمة وإعطاء درس يبقى محفوراً بالدم والنار في روع السكان المدنيين، تماماً كما فعل قبل ثلاثين عاماً في حماة.
رغم ذلك، يخطىء الرئيس بشار الأسـد سواء في التشخيص أو في معالجة الأزمة السورية، ذلك أنه إذا كان هناك من شيء قد تجلى واضحاً في هذا العام الأخير فهو أن مزيداً من القمع يولد المزيد من الاحتجاج في الشارع. وأمام معضلة الخيار بين مغادرة السلطة بمبادرة ذاتية أو القتل حتى الموت، يبدو أنه اختار الأسوأ بين الخيارات. وفي هذا الاتجاه يتَّبع على نحو أعمى الدليل الذي خطه معمر القذافي في ليبيا بالرغم من خاتمته المشؤومة.
بعد إخفاق محاولة وضع حد للمظاهرات السلمية عن طريق استخدام القناصة، لجأت القوات السورية إلى قصف المناطق المأهولة بكثافة بالمدفعية الثقيلة. هذا القرار زاد بشكل ملحوظ عدد الضحايا المدنيين في الأسابيع الأخيرة. نعم بالفعل: لقد امتنع النظام عن استخدام سلاح الطيران من أجل الحيلولة دون تقديم حجج للمجتمع الدولي لفرض مناطق حظر جوي. لكن هذه التصرفات تشكل جرائم ضد الإنسانية يجب أن يتم التحقيق فيها وملاحقتها بشكل فوري.
من كل ما سبق قوله يمكن الاستنتاج بأن استراتيجيات البقاء المُتبنَّاة من قِبَل بشار الأسـد حتى هذه اللحظة قد فشلت، ذلك أنها لم تستطع أن تفت في عضد السكان المدنيين ولا قوَّت النظام أيضاً، الذي يزداد ضعفاً في كل يوم يمر. إن وعوده حول انفتاح سياسي لاحق عن طريق تعديل الدستور أو قانون جديد للأحزاب تبدو فاضحة، ذلك أنها تُقَدًّم في مسرح خلفيته هي أجواء ماقبل الحرب. ويبدو أن النظام يجهل أن الإكراه يعمل فقط إذا تم توظيفه بالقطّارة في أحوال استثنائية، لكنه لا يمكن أن يتحول إلى أداة يومية من أجل البقاء في السلطة إلى الأبد.
هذا التصعيد الخطير في العنف كان له على الأقل أثر إيجابي، إذ إنه أيقظ المجتمع الدولي من السبات العميق الذي كان غارقاً فيه. فخلال الشهور الأولى من الانتفاضة الشعبية، قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بنوع من التصويت بالثقة لبشار الأسـد، الذي كانوا ينظرون إليه بوصفه إصلاحياً مُقَيَّداً بصقور النظام. هذه القراءة، الخاطئة بكل المعايير، قدمت جرعة من الأوكسيجين للسلطات السورية، التي اعتبرت أنها تملك وقتاً إضافياً، وراهنت، بالتالي، على طريق الإكراه من أجل تهدئة الاحتجاجات. القمع الدموي، الذي أوقع (حتى ذلك الوقت) أكثر من ستة آلاف قتيل، أقنع في النهاية البلدان الغربية بأنها لا تستطيع البقاء مكتوفة الأيدي بينما تنحدر سوريا نحو الحرب الأهلية.
أمام جمود المجتمع الدولي كانت الجامعة العربية هي من تولى القيام بالدور الرئيسي     مقدمةً خريطة طريق من أجل مرحلة ما بعد الأسـد. حال تحققها من فشل بعثة المراقبين، تبنت هذه الهيئة الإقليمية خطة تتوقع قيام حكومة وحدة وطنية بوجود مجموعات المعارضة وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية من أجل اختيار برلمان تمثيلي بشكل كامل. تمعت هذه الخطة بتوافق عربي واسع. ليس فقط من جانب البلدان الأكثر عدائية تجاه النظام السوري(مع قطر والعربية السعودية على رأسها) وإنما حكومات بلدان ما بعد الثورة أيضاً ( تونس، ليبيا، ومصر). كل هؤلاء سحبوا سفراءهم في دمشق وجمدوا العلاقات الثنائية معها.
فقط بعد طرح هذه الخطة، تحرك المجتمع الدولي، لمناقشة مشروع قرار يهدف إلى إدانة السلطات السورية بسبب انتهاكاتها المتكررة لحقوق الإنسان ومطالبتها بالوقف الكامل للاعتداءات على السكان المدنيين. علاوة على ذلك، هدد مشروع القرار بقيام مجلس الأمن بإعادة تقييم الوضع كل خمسة عشر يوماً واتخاذ إجراءات أكثر حسماً إذا لم تُسجَّل تغيرات على الأرض. هذا التهديد الواضح تم تفسيره من قبل روسيا والصين على أنه خطوة أولى من أجل إقامة تحالف للراغبين يستطيع التدخل عسكرياً، كما حدث سابقاً في ليبيا، تحت مبدأ المسؤولية عن الحماية. والفيتو الروسي الصيني اللاحق لا يمكن فهمه بشكل كامل بدون الإشارة إلى المصالح الاستراتيجية والتجارية لكلا البلدين مع سوريا. بالإضافة إلى ذلك، لا يناسب أيَّ واحد منهما تأسيسُ سابقة يمكن أن يتم استخدامها في المستقبل القريب ضد بلدان أخرى (إيران)، ولا تمهيدُ الطريق من أجل أن تعزز الولايات المتحدة موقعها في المنطقة.
لكن ربما كان العامل الأكثر حسماً في هذه اللعبة الكبيرة التي يخوضها هؤلاء وأولئك حول مستقبل سوريا هو تنافس القوى الإقليمية من أجل تحقيق مكاسب في الشرق الأدنى الجديد في مرحلة ما بعد الثورات. ليس سراً أن العربية السعودية تسعى لتصدير نموذجها الوهابي الارثووذكسي المتشدد إلى بقية العالم العربي وأنها وضعت البترودولار في خدمة هذه القضية. لكن الجديد فعلاً هو أن السعوديين يغتنمون المرحلة الحالية، غير الملائمة لمصالحهم من الناحية النظرية، من أجل استعادة الدور المفقود في العقدين الأخيرين ومن أجل محاولة توجيه عمل الحكومات الاسلامية المنتخبة أخيراً. إن هدفها لن يكون أقل من كبح الاصلاحات الديموقراطية وإجبار (هذه الحكومات) على تبني برنامج متشدد. لكن رغم مسعاها هذا، فإن من غير المحتمل أن تستطيع الرياض الوصول إلى مبتغاها، ذلك أن مشروعها السياسي البائس يمثل هجوماً على الخط العام  للربيع العربي.
من جهة أخرى توجد إيران، التي تحاول الحفاظ بأي ثمن على القوس الشيعي الذي يذهب من إيران حتى لبنان مروراً بالعراق وسوريا، بل إنها تحاول مده إلى بلدان أخرى في الخليج يسكنها الشيعة كالبحرين. من هنا كان سعيها من أجل تطوير برنامج نووي يمكن أن يعزز هيمنتها الاقليمية وأن يتم توظيفة كسلاح ردع ضد الأعداء التقليديين: الولايات المتحدة، إسرائيل، والعربية السعودية. أخيراً، نجد تركيا، التي يبدو أنها ضحَّت بسياستها (صفر مشكلات) مع الجيران من أجل التكيف مع المشهد الاقليمي الجديد محاولةً تحويل نموذجها الإسلام- ديموقراطي إلى مرجع لمجموع الحركات الإسلامية العربية.
في حال لم يجد المجتمع الدولي الصيغة السحرية لحل المشكلة، فإن هؤلاء اللاعبين الثلاثة سيلعبون دوراً محورياً في مستقبل سوريا. ما هو غير واضح هو الثمن المستعد كل واحد منهم لدفعه من أجل الحفاظ على نفوذه أو توسعته. فإذا كانت إيران قد راهنت بكل أوراقها لدعم حليفها الاستراتيجي لأنها تعتبر أن بقاءه قضية أمن قومي لها من الناحية العملية، فإن العربية السعودية وتركيا لا تبدوان مستعدتين لأن تشنَّا، على الأرض السورية، حرباً ضد إيران من خلال لاعبين وسطاء. أضف إلى ذلك، أنه من غير المحتمل إلى درجة كبيرة أن تقبل المعارضة السورية الدخول في هكذا لعبة، أو أن تترك المجموعاتُ العرقية والطائفية المختلفة التي تشكل فسيفساء اجتماعية متنوعة نفسها لتتلاعب بها الدسائس الإقليمية.
والحال هكذا، يمكننا التساؤل كم من الوقت سيكون بمستطاع النظام السوري البقاء في أوضاع مضادة له بشكل متزايد. فكونه منبوذاً في العالم العربي، ومحاصراً بالعقوبات الدولية، ومختنقاً بأزمة اقتصادية عميقة، كل ذلك يؤشر إلى أن الدعم الإيراني والروسي لن يكون كافياً لضمان بقائه. الخاسر الأكبر في هذا الانتظار المؤلم سيكون، مرة أخرى، السكان المدنيين، الذين سيكون عليهم نزف المزيد من  الدماء قبل أن يتهاوى النظام بشكل نهائي.

** أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة أليكانتي بإسبانيا.


www.elpais.com/elpais/2012/02/12/opinion/1329064344_827836.html

No comments:

Post a Comment