Thursday 30 May 2013

أحـمـد




أحـمـد **

ناعومي راميريث دياث- موقع: Entretierras

(ليس هذا تحليلاً سياسياً، وإنما هو بورتريه إنساني)

وُلِدَ أحمد قبل حوالي ثلاثة وعشرين عاماً، في "زمان الجهل"، لكنه ليس جهلاً وفق النمط الديني المتعلق بالجاهلية (الفترة التي ينظر إليها على أنها الهمجية السابقة على الإسلام)، وإنما هو المستخدم في التعبير "زمان الجهل"، المرحلة التي لم يكن فيها الناس واعين لأن عقولهم كان يسيطر عليها النموذج المُشكَّل من قبل"حزب البعث العربي الانتحاري"، كما يشير إليه تهكماً.
بعد تلك المرحلة، جاء زمن الثورة. كان أحمد من الأوائل في الخروج إلى التظاهر في مسقط رأسه، إدلب. حتى عندما كان الناس خائفين، قرر هو الخروج لأنه "إذا لم ندافع نحن عن أرضنا، فمن ذا الذي سيفعل ذلك؟" يتوقف عن الكلام ويسألني إذا كنت أعرف سوريا، وعلى ذلك أجيب بالتأكيد. عندئذ تزيغ نظرته ويقول "سـوريا.... الكلمة بحد ذاتها تقول كل شيء، إنها كلمة عظيمة جداً، إنها أعظم تقريباً من كلمة الأم".
لم يكن أحمد يعلم أنه سيفقدها (والدته) بالطريقة الأقل توقعاً. خرج من البلد بعد أشهر قليلة على بداية الثورة لأنه استُدعي إلى الجيش و"رفضتُ الالتحاق بجيش يحمي نظاماً كهذا". كلمات والده تجاه هذا الرفض تعبر تماماً عن الجو الذي ترعرع فيه أحمد وجعله يمتلك مبادئ بهذا السمو: "ما كنتُ لأسمح لك بفعل ذلك". لهذا، غادر سـوريا وأخذ يعمل نادلاً لإرسال المال إلى أسرته.
ناشطة سورية، كانت تعرف والده، كتبت تقول:"(والده) بقي في منزله -في الطابق الرابع-حوالي سنة وعندما كنا نقول له إنه مجنون، كان يجيب بـ: إلى أين سأذهب؟". أخيراً، انتهى إلى عبور الحدود إلى تركيا بصحبة زوجته وابنه الصغير، لإيصالهم إلى مكان آمن، بينما كان هو يدخل ويخرج لحمل المساعدات الإنسانية. "بلا حماية من أحد" –يصر أحمد-، فقد كان يساعد في إدارة مخيم باب الهوى. في تعليق حديث على الفيسبوك كان يشتكي من أن المعارضة كانت تصرف آلاف الدولارات يومياً بينما يفتقد اللاجئون الأغطية.
قبل يومين، في الحادي عشر من شباط| فبراير، دخل أحمد إلى الفيسبوك بعد عدة ساعات من عدم الدخول إلى الانترنت وأول ما وجده كان صورة والده. لم يفهم سبب وجود صورة قديمة لوالده على الشبكات الاجتماعية. ثم قرأ أسفل الصورة الذي يقول إنه قد توفي نتيجةً لانفجار سيارة في باب الهوى، مع زوجته وابنه الصغير. "لا أستطيع التعبير عما شعرتُ به. لا توجد طريقة تمكنكِ من تخيله أو الشعور به. الذين كانوا معي سألوا ما الذي جرى وفقط استطعت إلقاء الهاتف عليهم". بالرغم من قوة واعتدال كلماته، يُسْتَشْعَرُ حزن دفين لم يدعه يخرج وأجبره على التواري لبضع دقائق حتى يتمكن من الاختلاء بنفسه. لا أحد يتبعه، يلفنا الصمت جميعاً. يعود إلى الجلوس ويقول لي إنه لا يمكنه الشكوى، لأن من دواعي الفخر أن يكون ابناً لشهيد كان يعمل من أجل سـوريا. "يجب ألا نكون حزانى، ما يهم هو أن يتحقق الهدف". "لكن ثمة أناس اندسوا في الثورة لتشويه سمعتها، وهؤلاء هم أكثر وحشية من النظام، لأن من يعمل داخل الثورة من أجل تشويه سمعتها هو أسوأ من ذلك الذي يقمعها: إنهم أناس بلا مبادئ".
"والدي لم يكن يسمح بالأخطاء. حتى معي كان لا يتساهل بخطأ واحد، ولذلك كان ينتقد كل من يرتكب الأخطاء". الناشطة السورية المذكورة سابقاً تقول: "والده لم يمت بسبب انتقاداته بصوت مرتفع لأخطاء الجيش السوري الحر والمجاهدين، ولا للعبه بالنار أثناء قيامه بدور الوسيط لتحرير المختطفين (...)، كان ضد القتل، ضد الطائفية وضد إخافة الناس، وبالرغم من كل شيء كانت معجزة أنه لم يُقتَل. اليوم، أودت سيارة مفخخة بحياته وبحياة أسرته على الأراضي التركية، إلى حيث كان ذاهباً لاستئجار منزل لأسرته".
القوة التي يبديها أحمد مدهشة. "لا يمكنني إلا أن أحمد الله"، لكن عينيه الزرقاوين تبقيان زائغتين، تحت صدمة واقع لم يستوعبه بعد، وبالكاد يتذوق لقمة من الطعام الذي جهدنا نحن الذين كنا حوله لتقديمه له.
قِيلَ لي قبل التقائي به: "لاتوجد أسرة في سوريا لم يحدث فيها شيء ما". أعلم هذا، ورغم ذلك، فإن أحمد بوجهه الجميل وعينيه الزرقاوين، يترك في مَن يعرفه شعوراً مريراً من الوحدة والخسارة، خسارة يشعر بها هو وحده ولانستطيع نحن الآخرين أن نفهمها، خسارة أصابته كما خسارات أخرى كثيرة -مختلفة- ستصيبنا نحن.



** نُشرت في الثالث عشر من شباط| فبراير الماضي.





http://entretierras.net/2013/02/13/ahmad/

No comments:

Post a Comment